23 يونيو 2010

لـمَ الكتابـة | بـول أوستـر


(1)
روت لي صديقة ألمانية الظروف التي سبقت ميلاد ابنتيها.
لتسع عشرة سنة خلت، كانت حاملا لغاية «أسنانها» وتأخرت عن موعد الإنجاب، أسابيع عديدة. جلست «أ» على كنبة في غرفة الجلوس وأشعلت جهاز التلفزيون. تشاء الصُدَف أن تكون مقدمة الفيلم في نهايتها، وهي في طور اختفائها من على الشاشة. كان فيلم «قصة راهبة»، وهو دراما هوليوودية، تعود إلى فترة الخمسينيات، قامت ببطولته أودري هيبورن. شعرت بالسعادة لأنها وجدت ما تتسلى به، فجلست «أ» لتشاهد الفيلم، وسرعان ما استغرقت بالمشاهدة. عند منتصف الفيلم، أحست بالتقلصات الأولى. اصطحبها زوجها إلى المستشفى ولم تعرف نهاية القصة.

بعد هذه القصة بثلاث سنوات، حملت بطفلها الثاني، فجلست «أ» على الكنبة وأشعلت التلفاز مجددا. مرة أخرى، كان هناك فيلم على الشاشة، ومن جديد، كان «قصة راهبة» مع أودري هيبورن. وبشكل لافت للنظر (تُصرّ «أ» كثيرا على هذه النقطة)، أشعلت الجهاز في لحظة الفيلم المعينة، التي كانت قد غادرتها قبل ثلاث سنوات. هذه المرة، استطاعت مشاهدته حتى نهايته. لم تمض ربع ساعة بعد، حتى كانت قد فقدت «مياه الرأس» وذهبت إلى المستشفى كي تضع مرة ثانية.
هاتان البنتان هما طفلا «أ» الوحيدان. كانت الولادة الأولى مؤلمة بشكل كبير (واضطرت صديقتي للبقاء في المستشفى ولم تتعاف إلا بعد بضعة أشهر): لكن الولادة الثانية، حدثت بشكل هادئ، وبدون أي تعقيدات من أيّ نوع.
(2) منذ خمس سنوات، أمضيت فصل الصيف برفقة زوجتي وأولادي في «الفرمونت» حيث استأجرنا مزرعة قديمة، معزولة، في أعالي أحد الجبال. ذات يوم جاءت امرأة، كانت تسكن القرية المجاورة، لزيارتنا برفقة طفليها، وهما ابنة صغيرة تبلغ الرابعة من العمر، وصبي في شهره الثامن عشر. كانت ابنتي صوفي قد بلغت الثالثة لتوها، وكانت الفتاتان تحبان اللعب معا. جلسنا في المطبخ، زوجتي وأنا، برفقة ضيفتنا، بينما خرج الأطفال للّعب.
بعد مضي خمس دقائق، سمعنا ضجة تحطم كبيرة. كان الطفل الصغير قد ذهب إلى الرواق، في طرف المنزل الآخر، وبما أن زوجتي كانت قد وضعت مزهرية ورد في هذا الرواق، منذ ساعتين تقريبا، لذلك لم يكن من الصعب التكهن بما حصل. لم أكن حتى بحاجة لأن أنظر كي أعرف أن الأرض كانت مغطاة بنثار الزجاج المكسور وبمستنقع مياه صغير، كما أن سيقان الورود ووريقاتها كانت متناثرة.
شعرت بالحنق. «صبية سيئون ـ كنت أقول لنفسي ـ أهل سيئون مع أولادهم السيئين الحمقى. من آذن لهم بالمجيء من دون إعلامنا بذلك؟».
قلت لزوجتي بأني سأذهب لاصلاح الأضرار، وبينما كانت تتابع مع زائرتنا الحديث، تسلحت بمكنسة ومجرفة وممسحة وذهبت إلى الرواق.
كانت زوجتي قد وضعت الورود على صندوق خشبي، موضوع بالضبط، تحت درابزين الدرج. كان درجا هاويا وضيقا بشكل خاص، وعلى قدمه، كانت نافذة كبيرة، على أقل من متر واحد من الدرجة الأولى.
أصف هذه الجغرافيا لأنها شديدة الأهمية. فلتنظيم الأمكنة علاقة وثيقة بالذي سيحدث فيما بعد.
كنت انتهيت تقريبا من التنظيف حين خرجت ابنتي راكضة من غرفتها، على قرص درج الطابق الأول. كنت قريبا جدا من الدرج كي أراها (لو انني متراجع إلى الوراء بضع خطوات لما استطعت رؤيتها)، وفي هذه اللحظة القصيرة، تعرفت في محياها على هذا التعبير المليء بالمرح وبفرح العيش بسعادة لا توصف. بعد ذلك، وعلى الفور، وحتى قبل أن أستطيع أن أقول لها، فقط، صباح الخير، تعثرت. علق طرف صندلها بقرص الدرج، وهكذا، وبدون أن أصرخ حذارِ، طارت في الهواء. لا أريد أن أوحي بأنها كانت تقع ولا بأنها كانت تدور على نفسها، ولا بأنها كانت تقفز على الدرجات بل أريد أن أقول انها كانت تطير. ان صدمة دعستها الخاطئة رمتها، حرفيا، في الهواء. وفي خط طيرانها، رأيت بأنها كانت تتجه نحو النافذة بشكل مستقيم.
ما الذي فعلته؟ لا أعرف ماذا فعلت. كنت وجدت نفسي إلى الجانب الخاطئ من الدرابزين حين رأيتها تتعثر، لكنها حين وصلت إلى منتصف الطريق بين السلّم والنافذة، كنت واقفا على أول درجة. كيف وصلت إلى هناك؟ لم تكن سوى مسألة أقدام، وان كان لا يبدو لي أبدا، أنه من الممكن تغطية تلك المسافة، بوقت قليل كهذا، وقت شبه معدوم. على كل، كنت هناك وفي اللحظة التي كنت فيها، نظرت إلى الهواء، فتحت ذراعي وأمسكت بها.
(3)
كنت في الرابعة عشرة من عمري. وللسنة الثالثة على التوالي، أرسلني أهلي إلى مخيم صيفي في ولاية نيويورك. كنت أمضي القسم الأكبر من وقتي في لعب كرة السلة والبيسبول، لكن وبما أنه كان مخيما مختلطا، كان هناك بالطبع نشاطات أخرى: «السهرات»، القُبل الأولى الحمقاء مع الفتيات، سرقة السراويل الداخلية الصغيرة، طيش المراهقة المعتاد. أتذكر أيضا السيجار الرخيص الثمن، الذي دخناه، بالخفاء، الأسرّة المرتبة من جهة واحدة ومعارك القنابل المائية الكبيرة.
لا شيء مهماً من ذلك كلّه. أرغب ببساطة، في تسجيل أيّ عمر يمكن أن تكون عليه الأعوام الأربعة عشرة. خارجا من الطفولة، مثلما لم أكن قد بلغت سن الرشد بعد، متأرجحا من الامام الى الوراء، بين ما كناه والذي سأصبح عليه قريبا. من جهتي، كنت لا أزال شابا بعد من أجل التفكير بأنه كان لديّ أمل شرعي باللعب، ذات يوم، لعبة «ماجورلينغ»؛ لكني كنت عجوزا كي أشك بوجود الله. كنت قرأت «البيان الشيوعي»، ومع ذلك لا أزال أحب مشاهدة الرسوم المتحركة (التي يعرضها التلفزيون) صباح كل سبت. وفي كل مرة أشاهد وجهي في المرآة، إذ لديّ الإحساس بأنني أشاهد أحدا آخر.
تتألف زمرتي من 16 أو 18 ولدا. والقسم الكبير بيننا، قد أمضى عدة فصول صيف مع بعضه البعض، لكن هناك بعض الصبية الجدد الذين جاؤوا للانضمام إلينا هذه السنة. كان هناك بينهم شخص يدعى رالف. إنه ولد صموت، يظهر القليل من الحماسة من أجل أن يتجاوز خصمه في لعبة كرة السلة أو كان يمرر الكرة في لعبة «البيسبول». وعلى الرغم من أن لا أحد يجعل حياته قاسية بشكل خاص، إلا أنه كان يجد صعوبة في التأقلم. سبق له أن رسب في امتحان أو في اثنين هذه السنة بالذات، لذلك خصص جلّ وقته الحر لمراجعات مراقبة من قبل أحد المدرسين. يبدو حزينا، وكنت أشفق عليه، لكن ليس لدرجة كبيرة أفقد معها قدرتي على النوم.
كان أساتذتنا كلهم طلابا نيويوركيين، مولودين في بروكلين أو في كوينز، من هواة كرة السلة والدعابات الدقيقة. وهم أطباء أسنان، مستقبليون، أو محاسبون أو مدرّسون. كانوا مدنيين حتى أطراف أظافرهم. وكما غالبية النيويوركيين الحقيقيين، يتشبثون بتسمية (الباركيه) بالأرضية حتى وإن لم يكن تحت أقدامهم سوى العشب والحصى والأرض. فنون الحياة التقليدية الترفيهية، في مخيم صيفي، كانت بالنسبة إليهم شيئا غريبا، كما «المترو» بالنسبة إلى فلاح من «الأيوا». فسباق الزوارق و«السكوبيدو» وتسلق الجبال والليالي تحت الخيم أو الغناء حول نار المخيم، أشياء غير موجودة داخل دائرة اهتماماتهم. كانوا جديرين بتعليمنا رهافة الرمية أو كيفية الاستحصال على الكرة، لكن بخلاف ذلك، يفرحون، عموماً، بالتهريج وبرواية النكات.
لتتخيلوا إذاً مفاجأتنا، حين أعلن لنا، ذات بعد ظهيرة، أحد أساتذتنا بأننا سنذهب إلى الغابة للقيام بنزهة. بدا الأمر كما لو أن وحياً استبد به ولم يترك المجال لأحد في أن يثنيه عنه. «كفانا لعب كرة السلة» قال، وجدنا أنفسنا في قلب الطبيعة، وقد حان الوقت لكي نتصرف كمخيمين حقيقيين، أو كشيء من هذا القبيل. وهكذا، بعد فترة الراحة التي أعقبت وجبة الظهر، تقدمت المجموعة كلها، المؤلفة من 16 أو 18 صبيا، مصحوبة بأستاذين أو ثلاثة، إلى عمق الغابة.
كنا في نهاية شهر تموز أو في بداية شهر آب من العام ,1961 والجميع يتمتعون بمزاج مرح، أذكر ذلك. وبعد نصف ساعة من السير على الأقدام تقريبا، أدركت الغالبية بأن هذه النزهة كانت فكرة جيدة. لم يكن أحد يملك بوصلة، بالطبع، ولا أدنى فكرة عن المكان الذي نحن فيه، إلا أننا كنا نمرح جميعا وبشكل كبير، وإذا ما تهنا، فليس للأمر أي أهمية. عاجلا أم آجلا، سنعود لنجد طريقنا.
بدأ المطر بالهطول آنذاك. في البداية، لم يشعر أحد به، إذ كانت بعض النقاط الخفيفة تتساقط بين الأوراق والأغصان، لذلك ما من سبب للشعور بالقلق. استمررنا في التقدم، رافضين أن تفسد علينا متعتنا، بعض نقاط المطر، لكن بعد لحظات، بدأ المطر يهطل بغزارة. تبلل الجميع وقرر المنظمون أن نقوم بنصف استدارة وأن نعود أدراجنا. المشكلة الوحيدة كانت تكمن في أن لا أحد يعرف أين مكان المخيم. الغابة كثيفة مليئة بالأشجار وبالأدغال الشائكة، لذلك كنا اجتزنا طريقا من هنا، وطريقا من هناك، كما قمنا بتغييرات مفاجئة في سيرنا، وإلا لما استطعنا التقدم. ولتزداد بلبلتنا، بدأنا لا نرى شيئا. كانت الغابة معتمة، من أول النزهة، لكن مع هطول الأمطار، أصبحت السماء سوداء، وكأن الليل قد حل، على الرغم من أنها لا تزال الثالثة أو الرابعة من بعد الظهر.
فجأة بدأت أولى أصوات الرعد. وبعد الرعد، البرق. هبت العاصفة فوقنا بالضبط، وتبدى لنا بأنها أروع عاصفة صيفية من بين كل عواصف الصيف. لم أكن شاهدت مطلقاً عاصفة مماثلة، لا قبل هذه ولا بعدها. كان المطر ينهمر فوقنا بعنف، لدرجة يجب الاعتراف معها بأنه مؤلم. في كل مرة ترعد فيها كنا نشعر بأن صوتها يرتج داخل أجسادنا. تبعت ذلك الصواعق التي كانت تتراقص حولنا مثل الرماح. بدت كما لو أنها أسلحة انبثقت من العدم: زواعق فجائية تضيء ما حولها ببياض مغشى وشبحي. أصيبت بعض الأشجار، تكسرت بعض الأغصان. ليعود السواد ويطبق على كل شيء للحظات، وإن كانت العاصفة لا تزال تزأر في السماء لتصيب الصاعقة مكانا آخر.
كنا شعرنا بالخوف من الصاعقة. من الحماقة أن لا نشعر بالخوف، وعبر هذا الرعب نحاول أن نتجنبها. بيد أن العاصفة كانت ضخمة جدا، وأينما استدرنا، كنا نلتقي بصواعق جديدة. بدأ الفرار، هروب على عجل، استدرنا في حلقة مفرغة. ومن ثم، وبشكل مفاجئ، لمح أحدنا فرجة مضاءة. ارتفع صوت نقاش قصير، لمعرفة إن كان يجب الخروج من هذا المأمن أو البقاء تحت الشجر. لكن الصوت المنادي بالتوجه إلى الفرجة كان الغالب، فركضنا كلنا باتجاهها.
كان مرجا صغيرا، بدون شك، كان حقلا تابعا إلى مزرعة قريبة، ولكي نصل إليه، كان علينا المرور تحت سياج من الأسلاك الشائكة. واحدا بعد الآخر، زحفنا على بطوننا كي نجتاز الأسلاك. كنت في منتصف الرتل، بالضبط خلف رالف. وفي اللحظة التي يمر فيها من تحت السلك، وقعت الصاعقة من جديد. كنت على بعد خطوتين أو ثلاث منه، لكن بسبب المطر الذي يصيب جفنيّ لم أر جيدا ما حدث. كل ما عرفته بأن رالف توقف عن الحراك. اعتقدت بأنه أصيب بصدمة، فزحفت إلى قربه، تحت السياج. ما إن وصلت إلى الطرف الآخر حتى أمسكت بذراعه وسحبته نحوي.
لا أعرف كم بقينا في هذا الحقل. ربما ساعة، وخلال هذه الفترة بأسرها استمررنا تحت وابل المطر، بينما الرعود والبروق ماضية في تكبيلنا. كانت عاصفة من تلك العواصف التي انتزعت من صفحات التوراة، وظلت متواصلة، كما لو أنها لن تنتهي أبدا.
أصيب صبيان أو ثلاثة بشيء ما، ربما بالصاعقة أو بصدمة الصاعقة التي تقع على الأرض، على مقربة منهم، في حين كان الحقل يردد أصوات نواحهم. صبية آخرون يبكون ويتلون صلواتهم. قسم ثالث منهم، وبأصواتهم المليئة بالخوف، يجتهدون في إعطاء النصائح السديدة. تخلصوا من كل ما هو معدني، كانوا يصرخون، المعدن يجلب الصاعقة. نزعنا كلنا أحزمتنا ورميناها بعيدا.
لا اذكر أنني قلت كلمة واحدة. لا اذكر أنني بكيت أيضا. حاولت أنا وصبي آخر، جاهدين، سحب رالف باتجاهنا. كان لا يزال مغشياً عليه. فركنا له ذراعيه وساقيه، أمسكنا بلسانه كي لا يبتلعه، قلنا له أن يصمد. مالت بشرته إلى اللون الأزرق بعد لحظات. تراءى لي أن جسده أكثر برودة حين ألمسه، لكن وبخلاف ما كنت أراه، لم يخطر على بالي للحظة بأنه لن يعود إلى رشده. لم أكن سوى في الرابعة عشرة من عمري، إذ وبرغم كل شيء، ما الذي أعرفه حقا؟ لم أكن قد شاهدت ميتا من قبل.
أعتقد أن السبب كان السلك الشائك. الصبية الآخرون الذين أصابتهم الصاعقة شعروا بالتخدير، شعروا بوجع في أعضائهم لساعة أو اثنتين، ومن ثم تعافوا بعد ذلك. بيد أن رالف كان تحت السياج حين ضربت الزاعقة فأصابته بصدمة كهربائية.
بعد فترة، حين قالوا لي انه توفي، علمت بأن حرقا كان على ظهره بطول ثماني بوصات. أذكر بأنني اجتهدت لتسجيل هذه المعلومة وقلت لنفسي ان الحياة لن تبقى أبدا عمّا كانت عليه من قبل. لكن الغريب في الأمر، أني لم أفكر أبدا بأني سأكون إلى جانبه حين حدث ذلك. لم أفكر قبل الحادثة بلحظات، بأنه كان يمكن أن أكون أنا. ما فكرت فيه أني أمسكت له لسانه وبأني نظرت إلى أسنانه البيضاء. تسمرت على وجهه تقطيبة خفيفة بينما كانت شفتاه منفرجتين، لأمضي مدة ساعة وأنا أنظر إلى أطراف أسنانه. بعد أربع وثلاثين سنة، ما زلت أذكر ذلك كله. ما زلت أذكر عينيه نصف المغمضتين، نصف المفتوحتين. هم أيضا ما زلت أتذكرهم.
(4
)
لسنوات خلت، وصلتني رسالة من سيدة تقيم في بروكسيل. أخبرتني فيها قصة أحد أصدقائها، وهو رجل تعرفه منذ الطفولة.
في العام ,1940 تطوع هذا الرجل في الجيش البلجيكي. بعد هزيمة بلاده أمام الألمان، في السنة ذاتها، اعتقل وسجن في مخيم لسجناء الحرب. بقي هناك إلى نهاية الحرب، في العام .1945
كان يسمح للسجناء بمراسلة أعضاء في الصليب الأحمر، في بلجيكا. رأى الرجل نفسه وهو موكول، وبشكل اعتباطي، بمراسلة شابة ـ كانت ممرضة من بروكسيل، منتسبة إلى الصليب الأحمر ـ وخلال خمس سنوات كان يتبادل مع هذه المرأة الرسائل كل شهر. مع مرور الزمن، أصبحا صديقين مقربين. وفي إحدى اللحظات (ولا أعرف بالضبط كم استغرق الوقت ليصبحا كذلك)، شعرا بأن شيئا أكبر من الصداقة قد نشأ بينهما. استمرت المراسلات بينهما، وكانت ازدادت حميمية في كل مرة، وفي النهاية أعلنا لبعضهما البعض حبهما المتبادل. هل كان ذلك أمراً ممكن الحدوث؟ لم يكونا قد رأيا بعضهما مطلقا، لم يمضيا أي لحظة معا.
عند نهاية الحرب، أطلق سراح الرجل وعاد إلى بروكسيل. التقى بالممرضة، والتقت الممرضة به، ولم يخب أمل أي واحد منهما بهذا اللقاء. بعد فترة قصيرة، تزوجا.
مضت السنون. أنجبا الأولاد، شاخا، وتبدل العالم قليلا. وبعد أن أنهى ابنهما دروسه في بروكسيل، ذهب إلى ألمانيا للحصول على درجة الدكتوراه. هناك، في الجامعة، أعجب بشابة ألمانية. كتب إلى والديه ليعلن له عن رغبته في أن يقترن بها.
عبر أهل الشابين عن سعادتهم من أجل ولديهما، لتنظم العائلتان موعدا للقاء والتعارف. في اليوم المنشود، وصلت العائلة الألمانية إلى عند العائلة البلجيكية، في بروكسيل. حين دخل الأب الألماني إلى غرفة الاستقبال وحين نهض الأب البلجيكي لاستقباله، تبادل الرجلان نظرة تنم عن أنهما يعرفان بعضهما البعض. على الرغم من أن سنين كثيرة قد مرت، لم يساور الشك أياً من الرجلين في هويتهما. في فترة من حياتهما، كانا يريا بعضهما البعض، كل يوم. لقد كان الأب الألماني حارسا في المعتقل الذي أمضى فيه الأب البلجيكي فترة الحرب.
وتختم المرأة التي أخبرتني بهذه القصة في رسالتها بالقول إنه لم تكن هناك أي مشاعر بين هذين الرجلين. إذ على الرغم من الوحشية التي كان عليها النظام الألماني، لم يقم الأب الألماني بأي شيء، خلال هذه السنوات الخمس، يجلب نقمة الأب البلجيكي عليه.
مهما يكن من أمر، أصبح هذان الرجلان اليوم، من أعز الأصدقاء. تكمن فرحتهما الكبرى في الحياة، في أحفادهما المشتركين.
5
كنت في الثامنة من عمري. في تلك الفترة من حياتي، ما من شيء كان يبدو لي أهم من لعبة البيسبول. كان «النيويورك جاينتس» (عمالقة نيويورك) فريقي المفضل، وتابعت بإيمان مطلق، مفاخر هؤلاء الرجال الذين كانوا يرتدون الثياب السوداء والبرتقالية. اليوم، حين أفكر مجدداً بهذا الفريق، الذي لم يعد له أي وجود، وبالمباريات التي كان يلعبها في ملعبه الذي لم يعد موجودا بدوره، أستطيع، تقريبا، أن أعيد تشكيل الفريق بكل لاعبيه الذين كانوا يستعدون لخوض المباراة. ألفين دارك، ويتي لقمن، دون موللر، جوني أنطونيللي، مونتي إيرفن، هولت فيلهايم. لكن ما من أحد كان يبدو لي أكبر وأكمل، وأجدر بالعشق من ويلي مايز، المتأجج «ساي هاي كيد».
في ربيع تلك السنة، اصطحبت لمشاهدة مباراتي الأولى من مباريات دوري الرابطة. كان بعض أصدقاء والدي يملكون مقصورة في «البولو غراوندز»، وذات مساء من شهر أيار ذهبوا، جماعة، لمشاهدة العمالقة وهم يلعبون ضد «ميلووكي بريفز» (شجعان ميلووكي). لم أعد أذكر من فاز في تلك المباراة، لم أعد أذكر حتى ولو تفصيلا واحدا من تفاصيل هذه المباراة، لكن ما أذكره أنه بعد انتهاء المباراة، بقي أهلي وأصدقاؤهم جالسين وهم يتناقشون بانتظار أن يغادر جميع المشاهدين الآخرين الاستاد. تأخروا كي يستطيعوا الخروج من باب الحقل الخارجي، إذ كان الوحيد الذي لا يزال مفتوحا، لذلك توجب علينا أن نجتاز مدرجات الاستاد بأسرها. كان ذلك الباب موجودا فوق غرفة ملابس اللاعبين بالضبط.
كنا قد وصلنا إلى الجدار تقريبا حين لمحت ويلي مايز. لا مجال للشك أبدا، كان هو. كان ويلي مايز، الذي بدل ملابسه وارتدى ثيابا مدنية، على مقربة خطوات مني. أجبرت قدمي على السير باتجاهه، وبعد أن شحذت همتي وشجاعتي أجبرت فمي على التفوه ببعض الكلمات: سيد مايز، قلت، هل أستطيع الحصول على توقيعك (أوتوغراف)، إذا سمحت؟
لم يكن يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره على أكثر تقدير، ومع ذلك لم يكن بوسعي أن ألفظ اسمه.
كانت ردة فعله على سؤالي فجائية، لكنها محبة. بالطبع يا بني، قال. هل لديك قلم؟ كان مليئاً بالحياة، أذكر ذلك جيدا، كان يطفح بحيوية الشباب، ولم يكن يتوقف عن النطنطة وهو يكلمني.
لم يكن لدي أي قلم، لذلك سألت والدي إن كان بإمكاني أن أستعير قلمه. بدوره، لم يكن لديه واحدا. أمي أيضا. ولا حتى أي واحد من هؤلاء الراشدين الذين كانوا معنا.
كان ويلي مايز الكبير ينظر إلينا صامتا. وحين تبدى بوضوح بأن لا أحد من مجموعتنا كان يملك شيئا للكتابة، التفت نحوي وهو يرفع كتفيه. آسف يا بني، قال. ما من قلم، إذا ما من توقيع، وخرج من الاستاد وابتعد في الليل.
لم أكن أريد البكاء، إلا أن الدموع أبت إلا أن تغرق لي وجنتي ولم يكن بإمكاني القيام بأي شيء لوقفها. الأنكى من ذلك أني بكيت طول الطريق وأنا في السيارة حتى وصولنا إلى المنزل. بلى، لقد سحقتني خيبة الأمل، وكنت أشعر أيضا بالحنق على نفسي بسبب عدم قدرتي على لجم هذه الدموع. لم أعد طفلا. كنت أصبحت في الثامنة وعلى طفل في عمري أن لا يبكي بسبب أمر مماثل. ليس فقط لم أحصل على توقيع ويلي مايز، بل لم أحصل على أي شيء آخر. لقد امتحنتني الحياة ووجدت نفسي أبلهَ بنظر الجميع.
منذ ذلك المساء، وأنا أحمل قلما بشكل دائم، أينما ذهبت. اعتدت على عدم الخروج من المنزل من دون التأكد بأن هناك قلما في جيبي. لا لأنني كنت أعرف ماذا سأفعل بهذا القلم، بل لأنني لم أكن أرغب بأن أؤخذ على حين غرة. حدث ذلك مرة واحدة ولم أكن على استعداد أن تحصل مرة ثانية.
إن كانت السنون قد علمتني شيئا، فهذا هو: من اللحظة التي نجد فيها قلما في جيبنا، فثمة حظوظ قوية بأن نحاول استعماله.
وهذا ما أقوله لأولادي، بشكل طوعي، بهذه الطريقة أصبحت كاتبا.
_______
«لِمَ الكتابة»، بـول أوستـر | ترجمة اسكندر حبش – السفير الثقافي
بول أوستر شاعر وروائي ومترجم امريكي معاصر، ولد في 3 فبراير 1947، ذاع صيته في أوروبا قبل بلده الأم أمريكا لاهتمامه بالترجمة من والى الفرنسية. المسيرة الالكتروني