24 يونيو 2010

ثلج | أورهان باموق

الفصل الأول
الدخول إلي قارص

كان الرجل الجالس وراء سائق الحافلة مباشرة يفكر بصمت الثلج. يقول لو كان /صمت الثلج/ الذي يشعر به في داخله بداية قصيدة.
لحق بالحافلة التي ستأخذه من أرضروم إلي قارص في اللحظة الأخيرة. بعد سفر دام يومين في حافلة وسط عاصفة ثلجية من اسطنبول وصل إلي كراج أرضروم. وبينما كان يمشي في الممرات القذرة والباردة يحمل حقيبته، محاولا معرفة المكان الذي تنطلق منه الحافلات التي ستقلٌه إلي قارص، قال له أحدهم ثمة حافلة علي وشك الانطلاق، ولأن المعاون علي حافلة الموديل القديم (ماغيروس) لا يريد فتح (الباكاج) الذي أغلقه مرة أخري،

قال له: 'مستعجلين' لهذا السبب حمل معه حقيبة اليد الكبيرة ماركة (باللي)، الكرزية الداكنة الموضوعة الآن بين رجليه. كان المسافر الجالس بجانب النافذة يرتدي معطفا رماديا اشتراه من (كاوفهوف) في (فرانكفورت) قبل خمس سنوات. ولنقل من الآن بأن هذا المعطف الجميل ذا الوبر الناعم سيكون بالنسبة إليه مصدر خجل وقلق من جهة، ومصدرّ طمأنينةي من جهة أخري خلال الأيام التي سيقضيها في قارص.
بعد انطلاق الحافلة مباشرة فتح المسافر الجالس بجانب النافذة عينيه 'معتقدا أنه سيري شيئا جديدا'. وبينما كان يتفرتبه إلي ندف الثلج الكبيرة التي تندف من السماء مثل ريش الطير، لاستطاع أن يشعر باقتراب عاصفة ثلجية قوية، ولكان من المحتمل أن يفهم منذ البداية أنه سينطلق في سفر يغير حياته كلها، ويعود.
ولكن، لم تخطر العودة بباله أبدا. حين بدأ يحل المساء، ركزٌ عينيه علي السماء التي بدت أكثر إضاءة من الأرض، ولم يكن يري في ندف الثلج التي تكبر تدريجيا وتتناثر مع الرياح إشارات كارثة تقترب، بل كان يتفرج عليها وكأنها إشارات لعودة السعادة والصفاء المتبقية من طفولته في النهاية. المسافر الجالس بجانب النافذة عاد إلي اسطنبول المدينة التي عاش فيها سنوات طفولته وسعادته بعد غياب اثنتي عشرة سنة قبل أسبوع إثر موت أمه. بقي هنالك أربعة أيام، وبرزت له سفرة قارص هذه التي لم تكن بالحسبان. كان يشعر بأن الثلج الجميل جدا يمنحه سعادة أكثر من سعادته برؤية اسطنبول بعد تلك السنوات كلها. كان شاعرا، وفي قصيدة كتبها قبل سنوات، وقليلا مايعرفها القارئ التركي قال فيها بأن الثلج يندف مرة واحدة في أحلامنا خلال الحياة.
وبينما كان الثلج يندف طويلا صامتا كما يندف في أحلامه، تطهر المسافر الجالس بجانب النافذة بمشاعر البراءة والصفاء التي بحث عنها بلهفة علي مدي سنوات، وآمن بهذه الدنيا بتفاؤل يجعله يشعر وكأنه في بيته. بعد قليل عمل ما، لم يعمله منذ زمن طويل، ولم يخطر بباله. لقد نام في مقعده. لنستفد من نومه، ولنقدم حوله بعض المعلومات. كان يعيش في ألمانيا حياة منفيٌي سياسي علي مدي اثنتي عشرة سنة، ولكنه لم يكن في أي وقت كثير التعلق بالسياسة. الشعر هو تعلقه الأساسي وما يشغل فكره كله. هو في الثانية والأربعين من عمره، عازب، ولم يتزوج أبدا.
لا يجنتبه إلي طوله وهو يتلوي في مقعده، ولكنه يجعّدٌج طويل القامة بالنسبة إلي الأتراك. بشرته قاتمة، وقد اصفرت أكثر نتيجة السفر، وشعره خرنوبي. محب للوحدة، وخجول. لو عرف أن رأسه قد مال علي كتف المسافر الذي بجانبه بعد نومه بقليل نتيجة اهتزاز الحافلة، ومال فيما بعد إلي صدره بخجل كثيرا. المسافر الذي انهار جسده فوق جاره حسن النية، وهوإنسان مستقيم ولهذا السبب فهو قدري دائما كأبطال تشيخوف ذوي الحياة الخاصة الجامدة والفاشلة بسبب هذه الخصوصيات. سنعود فيما بعد إلي موضوع القدر كثيرا. اسم المسافر الذي أدرك أنه لن ينام طويلا بسبب جلسته غير المريحة هذه (كريم ألاقوش أوغلو)، ولكن لأنه لايحب هذا الاسم يفضل مناداته بالحرفين الأولين من اسمه وكنيته (كا)، ولأخبركم فورا بأنني هذا ما سأفعله في الكتاب. بطلنا، منذ سنوات المدرسة كان يعاند في كتابة اسمه علي أوراق الامتحان والوظائف (كا)، وكان يوقع علي ورقة التفقد في الجامعة باسم (كا)، وفي هذا الموضوع كان يأخذ بعين الاعتبار الشجار مع معلميه، وموظفي الدولة في كل مرة. لأن هذا الاسم الذي فرضه علي أمه وعائلته وأصدقائه نشره في كتبه الشعرية. كان لاسم (كا) في تركيا، وبين الأتراك في ألمانيا شهرة قليلة وسحرية. الآن، كالسائق الذي تمني للمسافرين سفرا بالسلامة إثر الخروج من مركز انطلاق أرضروم، أضيف أنا: مع السلامة يا كا الحبيب ... ولكنني لا أريد أن أخدعكم: أنا صديق قديم ل (كا)، وما سيقع له في قارص أعرفه قبل أن أبدأ بهذه الحكاية.
بعد خورسان انحرفت الحافلة نحو الشمال إلي قارص. وفي إحدي الطرق الصاعدة المتلوية ظهرت فجأة عربة خيل، وحين ضغط السائق بقوة علي المكابح استيقظ كا فورا. لم يستغرق كثيرا دخوله جو الوحدة والتعاون المتشكل في الحافلة. حين تبطئ الحافلة في المنعطفات وعلي أطراف المنحدرات الصخرية كان ينهض علي قدميه لرؤية الطريق بشكل أفضل كالمسافرين الذين يجلسون في الخلف علي الرغم من جلوسه وراء السائق مباشرة. ويشير بإصبعه إلي زاوية غابت عن انتباه المسافر الذي يمسح الزجاج المغشي أمام السائق باندفاع المساعدة (لم ينتبه إلي المساعدة) وحين ازداد تراكم الثلج، ولم تعد المسٌاحات تستطيع مسح الزجاج الأمامي المبيض تماما، كان كالسائق يحاول إيجاد الطريق الذي لم يعد باديا أبدا. لأن الثلج بني علي شاخصات الطريق فلم تعد تقرأ. حين تراكم الثلج جيدا أطفأ السائق الأضواء البعيدة. وبينما كان الطريق يظهر بشكل أوضح في شبه القمة، أظلم داخل الحافلة. المسافرون وسط المخاوف ينظرون إلي أزقة القري الفقيرة تحت الثلج، والمصابيح الذاوية للبيوت المهلهلة ذات الطابق الواحد، وإلي طرق القري البعيدة التي أجغلقت طرقها منذ الآن، والمنحدرات التي تنيرها المصابيح بشكل غير واضح، دون أن يتكلموا فيما بينهم. إذا تكلموا فهم يتكلمون همسا.
الجار الذي سقط في حضنه كا كان نائما. سأله بهمس عن الهدف من زيارته لقارص. كان من السهل فهم أن كا ليس قارصيا.
همس كا قائلا: 'أنا صحفي'.. هذا لم يكن صحيحا. 'أنا ذاهب من أجل انتخابات البلدية، والنساء المنتحرات' هذا صحيح.
قال جاره في المقعد بمشاعر قوية لم يستطع معرفة ما إذا كانت مشاعر اعتزاز أم خجل: 'لقد كتبت صحف اسطنبول كلها أن رئيس بلدية قارص قد قتلشعر نحوه بالشفقة والمحبة. حين فعل كا هذا قلٌ خوفه من العاصفة الثلجية غير المنتهية، وفهم أنهم لن يتدحرجوا إلي أحد المنحدرات، وأن الحافلة ستصل إلي شوارع قارص ولو متأخرة قليلا.
حين دخلت الحافلة شوارع قارص المغطاة بالثلج في الساعة العاشرة، أي بتأخير ثلاث ساعات لم يستطع كا معرفة المدينة. ولم يعرف بناء محطة القطارات الذي ظهر أمامه في يوم ربيعي حين أتي إلي هنا قبل عشرين سنة بواسطة قطار بخاري، ولم يستطع إيجاد فندق الجمهورية الذي يوجد في كل غرفة من غرفه هاتف، والذي جلبه إليه الحوذي بعد أن جوٌله المدينة كلها. كأن كل شيء محي تحت الثلج وضاع. عربة أو عربتا خيل في مركز الانطلاق تذكران بالماضي، ولكن المدينة أكثر هما وفقرا مما رآه كا وتذكره. رأي كا من نافذة الحافلة التي بني عليها الجليد الأبنية البيتونية التي أنشئت شبيهاتها في كل مكان من تركيا خلال السنوات العشر الأخيرة، ولوحات (البلغسي غلاس) المتشابهة في كل مكان، وملصقات الانتخابات المعلقة علي الحبال المشدودة بين طرفي الشارع.
فور نزوله من الحافلة وملامسة قدمه الثلج الناعم دخل من كمي بنطاله برد قارس. بينما كان يسأل عن فندق (ثلج بلاس) الذي حجز فيه بواسطة الهاتف من اسطنبول رأي وجوها مألوفة بين المسافرين الذين يناولهم المعاون حقائبهم، ولكنه لم يستطع معرفة هؤلاء الأشخاص تحت الثلج.
في مطعم (الوطن الأخضر) الذي ذهب إليه بعد أن رتب وضعه في الفندق رآهم من جديد. رجل حفر الزمان عليه آثاره، متعب ولكنه مازال وسيما ومتباهيا، وبجانبه امرأة تبدو وكأنها زوجته بدينة ولكنها حيوية. تذكرها كا. كانا في اسطنبول يعملان في مسرح سياسي كثير الشعارات في السبعينيات.
اسم الرجل: (صوناي ظائم). وبينما كان ينظر إليهما شاردا شبه المرأة بإحدي زميلاته في المدرسة الابتدائية. رأي كا الرجال الآخرين علي الطاولة ببشراتهم الشاحبة والميتة الخاصة بأوساط المسرحيين. ما عمل هذه الفرقة المسرحية الصغيرة في هذه المدينة المنسية في هذه الليلة الشباطية المثلجة؟ وقبيل خروجه من هذا المطعم الذي كان يداوم عليه الموظفون ذوو العقادات قبل عشرين سنة اعتقد كا أنه رأي وراء طاولة أخري أحد الأبطال اليساريين حاملي السلاح في السبعينيات. ذاكرته أيضا محيت تحت الثلج مثل قارص المقفرة والشاحبة ومطعمها.
أبسبب الثلج ليس ثمة أحد في الشوارع، أم أنه لا يوجد أحد في أي وقت علي هذه الأرصفة المتجمدة؟ قرأ بتمعن ملصقات الانتخابات علي الجدران، وإعلانات مدارس الدورات التعليمية والمطاعم، والملصقات المضادة للانتحار التي علقتها المحافظة وكتب عليها: 'الإنسان إبداع الله، والانتحار كفر'. رأي كا في المقاهي شبه الممتلئة، والتي بني الجليد علي نوافذها جموع الشباب متابعي التلفاز. رؤية الأبنية الحجرية القديمة ذات البنية الروسية التي جعلت لقارص مكانة خاصة في ذاكرته أدخلت الراحة إلي نفسه ولو قليلا.
فندق (ثلج بلاس) أحد الأبنية الروسية الظريفة المبنية وفق الطراز المعماري البلطيقي. ويدخل إلي الفندق من تحت قنطرة مفتوحة علي باحة، وهو بناء بطابقين ذو نوافذ ضيفة ومرتفعة طولانيا. شّعّرّ كا بانفعال غير واضح حين كان يعبر من تحت هذه القنطرة التي صمٌمت مرتفعة لتعبر من تحتها عربات الخيول. ولكنه كان متعبا بحيث لم يتوقف عند هذا الأمر. ولأضف أيضا أن هذا الانفعال يتعلق بأحد الأسباب التي جعلت كا يأتي إلي قارص: حين زار كا جريدة الجمهورية في اسطنبول قبل ثلاثة أيام التقي صديق شبابه (طانر)، وقد شرح لكا بأن انتخاباتي بلدية ستجري في قارص، وغير هذا فإن الفتيات في قارص كما في باطمان أصبن بمرض انتحار عجيب، وإذا أراد أن يكتب في هذا الموضوع، ويري تركيا الحقيقية ويعرفها اقترح عليه الذهاب إلي قارص، ومنحه بطاقة صحفي مؤقتة لهذا العمل الذي لم يتحمس له أحد، وأضاف بأن زميلتهما في الجامعة (إيبك) الجميلة في قارص. وعلي الرغم من انفصالها عن مختار فهي هناك في فندق (ثلج بلاس) تعيش مع والدها وأختها. حين كان يستمع كا لكلمات طانر الذي يقدم للجمهورية تحليلات سياسية تذكر جمال إبيك.
شعر كا بالراحة بعد أن قدم له المفتاح جاويت الكاتب المتابع التلفزيون في بهو الفندق المرتفع السقف، وصعد إلي الغرفة ذات الرقم 203 في الطابق الثاني. استمع إلي نفسه بانتباه. لم يكن عقله ولا قلبه مهتما بوجود إيبك في الفندق، علي عكس ما خشي منه طوال الطريق.
كاد يموت خوفا من وقوعه في العشق نتيجة الإحساس الغريزي القوي عند الذين يتذكرون سلسلة الآلام والخجل فقط من حياتهم العاطفية المحدودة.
في منتصف الليل، كان مرتديا منامته. في غرفته المظلمة فتح الستارة قليلا قبل دخوله السرير. وتفرج علي تساقط ندف الثلج الكبيرة غير المتوقف.
- 2 -
مدينتنا مكان مطمئن الأحياء البعيدة
أيقظ الثلج لديه شعور صفاء منسي بتغطيته قذر المدينة وطينها وظلمتها. ولكن كا فقد هذا الشعور بالامتنان من الثلج بعد اليوم الأول الذي قضاه في قارص. الثلج هنا شيء متعب وممل ودافع إلي اليأس. فطوال الليل لم يتوقف عن السقوط. في الصباح كان يمشي كا في الشوارع، ويجلس في المقاهي المليئة بالأكراد العاطلين عن العمل، ويلتقي الناخبين حاملا ورقة وقلما مثل صحفي متعلق بعمله، ويتسلق طرق الأحياء الفقيرة العمودية والمتجاورة، وفي أثناء لقائه رئيس البلدية الأسبق، ومعاون المحافظ، وأقرباء الفتيات المنتحرات لم يهدأ الثلج أبدا. مشهد الشوارع الثلجية كان يبدو له من نافذة أحد البيوت الآمنة في حي (نيشان طاش) حين كان صغيرا كأنه قطعة من حكاية، والآن يبدو له كملجأ أخير وسط أحلامه التي حملها عبر سنوات حول حياة شخص من الطبقة الوسطي، وبداية فقر نهايته يائسة لا يريد مجرد تخيله.
صباحا، وبينما كانت المدينة قد استيقظت للتو، ودون أن يعير اهتماما للثلج الهاطل سار بسرعة منحدرا من شارع أتاتورك، متجها نحو أحياء الأكواخ، نحو أحياء قارص الأفقر إلي حي (تحت القلعة). وبينما كان يتقدم مسرعا من تحت أشجار البلوط و (الزعرور) المتجلدة الأغصان، وبينما كان ينظر إلي الأبنية الروسية القديمة والمهترئة والبارزة من شبابيكها مداخن المدافئ، وإلي الثلج الهاطل وسط الكنيسة الأرمنية ذات الألف عام والناهضة وسط مستودعات الحطب، ومحطة الكهرباء، وإلي الكلاب القوية النابحة علي كل من يعبر الجسر الحجري ذي الخمسة قرون فوق نهر قارص المتجمد، وإلي الأدخنة المتصاعدة رفيعة من الأكواخ الصغيرة لحي (تحت القلعة) والبادية تحت الثلج وكأنها مفرغة تماما ومتروكة، تّكّدٌّرّ إلي حد تجمعت فيه الدموع في عينيه. ثمة طفلان صبي وبنت أرسلا إلي المخبز في الطرف الآخر من الوادي، وفي حصنهما خبز ساخن يتضاحكان سعيدين وهما يتناهران، ابتسم لهما كا. الكدر الذي حفر آثاره في داخله غير ناجم عن الفقر أو اليأس بل هو ناجم عن شعور غريب بالوحدة سيعاني منه فيما بعد. وهذا الكدر موجود في دكاكين المصورين ذات الواجهات الفارغة، وفي نوافذ المقاهي المتجلدة والمليئة بالعاطلين عن العمل الذين يلعبون الورق، والساحات الفارغة المغطاة بالثلج. كأن المكان هنا قد نسيه الجميع والثلج يهطل إلي نهاية الحياة بصمت.
مرٌ الصباح علي كا وهو محظوظ، وقجوبِلّ كصحفي اسطنبولي شهير يتوق الجميع لمعرفته ومصافحته.. فتح الجميع أبوابهم له من معاون المحافظ وحتي الأشخاص الأفقر وتحدثوا. قدٌّم كا للقارصيين السيد سردار مجصدِرج (جريدة مدينة سرهات) التي تبيع ثلاثمائة وعشرين نسخة، ومرسل الأخبار المحلية إلي جريدة الجمهورية (أغلبها لاينشر). فور خروج كا من الفندق صباحا كان أول عمل له إيجاد هذا الصحفي العتيق عند باب جريدته والمزود باسمه في اسطنبول علي أنه (مراسلنا المحلي)، وفهم بسرعة بأنه يعرف قارص كلها. الأسئلة التي ستسأل ل كا مئات المرات علي مدي ثلاثة أيام سيقضيها في قارص سألها أولا السيد سردار.
'أهلا بكم في مدينتنا مدينة سرهات يا أستاذ. ولكن ما عملكم هنا؟!'.
قال كا بأنه جاء لمتابعة الانتخابات، ولعله يكتب مقالا حول الفتيات المنتحرات.
قال الصحفي: 'يجبالّعج في أمر الفتيات المنتحرات كما في باطمان. لنذهب إلي السيد قاسم معاون مدير الأمن، وليعلموا بمجيئكم خشية من أي شيء '.
كانت عادة مراجعة الأمن للقادمين إلي البلدة حتي ولو كانوا صحفيين أجانب منحدرة منذ عام 1940. لم يعارض كا هذا لأنه منفي سياسي عائد إلي البلدة بعد سنوات طويلة، ولشعوره بوجود فدائيي حزب العمال الكردستاني حتي لو لم يحكِ بهذا.
عبرا المدينة بشكل قطري خلال خمس عشرة دقيقة تحت الثلج النادف بطيئا مارين من سوق الجملة الخاص بالفواكه ومن شارع ناظم قرة بكر الذي تصطف فيه متجاورة دكاكين البيطاريين وبائعي قطع التبديل، ومن أمام المقاهي التي يتابع عاطلوها عن العمل التلفاز والثلج الهاطل، ودكاكين باعة مشتقات الحليب حيث تعرض اسطوانات جبنة القشقوان الضخمة.
في الطريق توقف السيد سردار برهة وأشار ل كا إلي الزاوية التي أطلق فيها النار علي رئيس البلدية السابق. بحسب إحدي الإشاعات فإن القضية قضية بلدية بسيطة، فقد أطلق النار علي رئيس البلدية بسبب أمره بهدم شرفة بنيت بشكل مخالف. ألقي القبض علي القاتل وسلاحه معه بعد الجريمة بثلاثة أيام في مخزن التبن التابع لبيته في قريته التي هرب إليها. وعلي مدي الأيام الثلاثة شاعت إشاعات جعلت الناس لايؤمنون بداية بأن هذا هو القاتل، وقد أحدث السبب البسيط للجريمة شعورا بالإحباط.
مديرية أمن قارص بناء طويل ذو ثلاثة طوابق. وهو أحد الأبنية الحجرية القديمة المصطفة طوال شارع (فائق بيك)، والمتبقية من أغنياء الروس والأرمن والمستخدمة بغالبيتها أبنية حكومية. وبينما كانا ينتظران معاون مدير الأمن أشار السيد سردار إلي السقف المزخرف وقال بان البناء يعود إلي تاريخ 1877 1918 في الفترة الروسية، وكان قصر أحد الأغنياء الأرمن مؤلفا من أربعين غرفة، وفيما بعد تحول إلي مستشفي روسي.
خرج السيد قاسم معاون مدير الأمن ذو الكرش الكبيرة إلي الممر، وأدخلهما إلي غرفته. فهم كا بسرعة بأنه لايقرأ جريدة الجمهورية التي يجدها يسارية، ومديح شاعرية أحدهم لم يترك لديه انطباعا إيجابيا، ولكنه خجل من إبداء هذه الآراء أمام السيد سردار لأنه صاحب أكثر الصحف المحلية توزيعا. حين أنهي السيد سردار كلامه قال لكا: 'هل تريد حماية؟'.
'كيف؟'.
'نفرز لكم أحد رجالنا المدنيين. ترتاحون'بما يعانين منه يكون الأمر أفضل. بعضهن يفرحن لاعتقادهن بأن القادمين مرشحو رئاسة البلدية حاملين صفائح زيت دوار الشمس، أو صناديق الصابون، أو ربطات البسكويت والمعكرونة. واللواتي يقررن إدخالهما إلي البيت بدافع من كرم الضيافة يقلن لكا ألا يخاف من الكلب النابح. بعضهن يعتقدن أن هذه مداهمة أمنية أو عملية تفتيش من تلك المستمرة علي مدي سنوات فيفتحن الباب متوجسات، وحين يدركن بأن القادمين ليسوا من الدولة فيلتففن بالصمت. أما أسر الفتيات المنتحرات (استطاع كا خلال فترة قصيرة معرفة ست وقائع) فقد أفدن بأن بناتهن لم تشتكين من شيء، وقد دهشوا للحادثة، وحزنوا كثيرا.
في غرف أرضياتها ترابية، أو مغطاة بسجادة آلية صغيرة بقدر كف، باردة مثل الثلج، وعلي مقاعد مطاولة قديمة، وكراسي مائلة، ووسط أطفال يبدو بأن عددهم يزداد مع الانتقال من بيت إلي بيت يتدافعون ويلعبون بألعاب بلاستيكية مكسرة (سيارات، دمي ذات ذراع واحد) وزجاجات وصناديق أدوية وعلب شاي فارغة، ومدافئ حطب يحرٌك داخلها باستمرار لكي تسخن، ومدافئ كهربائية تتغذي بكهرباء غير شرعية وأمام تلفزيونات مفتوحة باستمرار ولكن صوتها مغلق استمعا إلي هموم قارص اللا متناهية وحكايات الفقر والطرد من العمل والفتيات المنتحرات. حكوا لكا حكاياتهم الشخصية وكأنها هموم البلد والدولة. أمهات يشتكين أن أولادهن عاطلون عن العمل، وباكيات لوقوع أبنائهن في السجن، أو لعملهم مكيسين في الحمامات مدة أثنتي عشرة ساعة في اليوم ويشبعون عائلاتهم المؤلفة من ثمانية أشخاص بصعوبة. وعاطلون عن العمل مترددون في الذهاب إلي المقهي بسبب ثمن كأس الشاي شاكين من سوء حظهم ومن الدولة والبلدية. في إحدي نقاط هذه الحكايات وهذا الغضب كله، وعلي الرغم من الضوء الأبيض الداخل عبر النوافذ شعر كا بأن البيوت التي يدخلها ويخرج منها قد حلٌ عليها الظلام وأنه يصعب عليه معرفة أشكال أغراضها. والأنكي من ذلك أن هذا العمي نفسه هو الذي يجبره علي لفت نظره إلي الخارج نحو الثلج النادف وكأنه ستارة شفافة، أو شكل من أشكال صمت الثلج يهبط علي عقله، ويقاوم عقله وذاكرته حكايات الفقر والبؤس.
واستمع أيضا لحكايات المسنين والتي لن تخرج إحداها من عقله حتي موته. ليس الفقر واليأس وعدم التفهم ما جذب كا لهذه الحكايات. كما أنه ليس عدم تفهم الأباء والأمهات بضرب بناتهم وعدم السماح لهن بالخروج إلي الشارع، كما أنه ليس ضغط الأزواج الغيورين والطفرانين. الأمر الأساسي الذي أخاف كا وأدهشه هو دخول حالات الانتحار إلي الحياة اليومية العادية فجأة دون إبلاغ أو مراسم.
مثلا فتاة علي وشك أن تخطب قسرا لصاحب مقهي عجوز، تناولت طعام عشائها كالعادة مع أبيها وأمها وأخوتها الثلاثة وجدتها لأبيها، وبعد أن جمعت الصحون المتسخة مع إخوتها كالعادة أيضا وهم يتضاحكون ويتدافعون، بعد أن ذهبت لجلب الحلوي من المطبخ خرجت إلي الباحة، ودخلت من النافذة إلي غرفة أبيها وأمها، وأطلقت النار علي نفسها بواسطة بندقية صيد لأبيها. الأب والأم اللذان وجدا جسد ابنتهما المتلوي وسط الدماء، وكانا يعتقدان أنها في المطبخ،لم يفهما سبب انتحارها، كما لم يستوعبا انتقالها من المطبخ إلي غرفة النوم. فتاة أخري في السادسة عشرة من عمرها تعاركت بشد الشعر مع أختيها حول القناة التي سيتابعنها، ومن ستمسك جهاز التحكم عن بعد، وبعد أن تلقت كفين قاسيين من أبيها الذي جاء للفصل بينهن، دخلت إلي غرفتها، وصبت في جوفها زجاجة مبيد زراعي وكأنها تشرب زجاجة مياه غازية من نوع (مورتالين). أخري في الخامسة عشرة تزوجت نتيجة حب، ووضعت ولدا قبل ستة أشهر، وقد يئست من ضرب زوجها المسحوق والعاطل عن العمل، وبعد شجار عادي دخلت إلي المطبخ، وأقفلت الباب خلفها، وعلي الرغم من صراخ زوجها وهو يكسر الباب لأنه أدرك ما تفعله شنقت نفسها بمحاولة واحدة بواسطة حبل وكلابة كانت قد أعدتهما من قبل.
ثمة سرعة ويأس في تلك الحكايات وفي الانتقال بين الموت وسيرورة الحياة العادية سحر كا. الكلابات المثبتة في السقف، والأسلحة الملقمة بالرصاص من قبل، وزجاجات المبيد المجلوبة من غرفة جانبية إلي غرفة النوم تثبت أن الفتيات المنتحرات قد حملن منذ وقت طويل في دواخلهن فكرة الانتحار.
بدأ يظهر انتحار الفتيات والنساء الشابات فجأة في باطمان التي تبعد عن قارص مئات الكيلومترات وعلي الرغم أن انتحار الذكور علي المستوي العالمي يبلغ ثلاثة أو أربعة أضعاف الانتحار عند الإناث، فإن بلوغ نسبة انتحار الإناث في باطمان ثلاثة أضعاف نسبة انتحار الذكور، وهي تساوي أربعة أضعاف نسبة الانتحار علي المستوي العالمي لفت بداية نظر موظف شاب يعمل في مؤسسة إحصاء الدولة في أنقرة، والخبر الصغير الذي نشره في جريدة الجمهورية لم يجعل أحدا في تركيا يهتم به. علمت بالخبر جرائد ألمانيا وفرنسا واهتمت به، وذهب مراسلوها في تركيا إلي باطمان. وحين نشروا تحقيقاتهم في بلدانهم، اهتمت الجرائد التركية بالانتحارات، وجاء كثير من الصحفيين المحليين والأجانب إلي المدينة. وبحسب رأي موظفي الدولة المهتمين بالقضية فإن هذا الاهتمام والنشر زاد من تشجيع أكثر بعض الفتيات علي الانتحار. وأفاد معاون المحافظ الذي تحدث إليه كا بأن الانتحار في قارص لم يبلغ إحصائيا مستوي باطمان، وأنه لا يعارض 'الآن' لقاءه مع عائلات الفتيات المنتحرات، ورجاه ألا يستخدم كثيرا معها كلمة 'انتحار'، وألا يقدم القضية لجريدة الجمهورية مبالغا فيها. وقد بدأت التحضيرات لمجيء هيئة مؤلفة من اختصاصي نفساني، وشرطي، ووكيل نيابة وأحد مسؤولي الشؤون الدينية من باطمان إلي قارص، وقد علقت منذ الآن ملصقات تناهض الانتحار، أمرت إدارة الشؤون الدينية بطبعها، كتب عليها: 'الإنسان إبداع الله، والانتحار كفر'، وقد وصلت إلي المحافظة كراسات دينية بالعنوان نفسه ليتم توزيعها. ولكن معاون المحافظ لم يكن واثقا من أن هذه الإجراءات الاحترازية ستحول دون الانتحار الذي بدأت جائحته في قارص خلال فترة قريبة، ويخشي أن تؤدي 'الإجراءات الاحترازية' نتيجة عكسية. لأن كثيرا من الفتيات يعتبرن قرار الانتحار نوعا من ردة الفعل نحو الدولة المعارضة للانتحار، ونحو الآباء، والرجال، والوعاظ بقدر أخبار الانتحار.
قال معاون المحافظ لكا: 'من المؤكد أن سبب الانتحار هو اليأس المفرط. لا شبهة في هذا، ولكن لو كان اليأس سببا حقيقيا للانتحار لانتحرت نصف نساء تركيا.' وقد قال معاون المحافظ ذو الشارب الشبيه بالفرشاة، والوجه السنجابي لكا مباهيا بأن النساء غاضبات من الدولة والأسر وصوت الدين الذكوري لتلقينهن عبارة 'لا تنتحرن' لهذا السبب يجب وضع امرأة علي الأقل في الهيئة التي تقوم بالحملة المناهضة للانتحار، وقد أبلغ أنقرة خطيا بهذا الأمر.
فكرة أن الانتحار مرض سار مثل الوباء ظهرت أولا إثر مجيء فتاة من باطمان إلي قارص. وقد تحدث كا إلي خال البنت بعد الظهر في حي أتاتورك تحت أشجار (الزعرور) في باحة مغطاة بالثلج (لم يدخلوه إلي البيت) وهو يدخن سيجارة، وقد ذكر الخال أن ابنة أخته ذهبت عروسا إلي باطمان قبل سنتين وهناك عملت في شؤون البيت من الصباح حتي المساء، وقد باتت حماتها تؤنبها باستمرار لأنها لا تنجب، ولكن هذه الأمور ليست أسبابا كافية للانتحار، وقد أخذت فكرة أن النساء كلهن ينتحرن من باطمان، وكانت المرحومة تبدو هجنا في قارص عند عائلتها مسرورة جدا. لهذا السبب، صباح اليوم الذي كانت ستعود فيه إلي باطمان دهشوا كثيرا حين وجدوها ميتة في الفراش وبجانب رأسها علبتان من الدواء ابتلعتهما، ورسالة.
بعد شهر من حادثة هذه الفتاة التي نقلت فكرة الانتحار من باطمان إلي قارص قلدتها أولا ابنة خالتها وهي في السادسة عشرة من عمرها. سبب هذا الانتحار الذي وعد كا أباها وأمها الباكيين بأن يكتب في الجريدة تفاصيل قصتها كلها هو قول أحد المعلمين للفتاة في الصف بأنها ليست بكرا. وبعد فترة قصيرة انتشرت هذه الإشاعة في قارص كلها. ترك الفتاة خطيبها، كما انقطع الخطاب الكثيرون الذين كانوا يأتون إلي بيتها. وفي هذه الأثناء بدأت تقول لها أمها: 'مهما كان فإنك لن تتزوجي' وبينما كانوا جميعا يتابعون في التلفاز مشهد عرس بدأ الأب السكران يبكي، فسرقت الفتاة حبوب النوم من صندوق جدتها، وابتلعتها جميعها، ونامت (بقدر ما فكرة الانتحار سارية، بقدر ما طريقتها سارية). وإثر معرفة الطب الشرعي بأن الفتاة المنتحرة بكر قام والدها كما قام المعلم المشيع للشائعة بتوجيه التهمة لقريبتها المنتحرة القادمة من باطمان. ولأنهم يريدون من كا أن ينشر في خبره بأنه تبين عدم صحة الاتهام، وأن يفضح المعلم الذي نشر هذه الكذبة، فقد شرحوا له انتحار ابنتهم بالتفصيل.
الأمر الذي أوقع كا في يأس عجيب من هذه الحكايات كلها هو أن الفتيات المنتحرات لم يجدن فرصة للخلوة سوي من أجل الانتحار. حتي الفتيات المنتحرات بحبوب النوم كن يقتسمن الغرفة مع غيرهن حتي وهن يمتن بشكل سري. كا الدارس للآداب الغربية، والناشئ في (نيشان طاش) في اسطنبول كلما فكر بانتحاره كان يشعر بضرورة إيجاد زمن طويل من أجل تحقيق هذا، ومكاني، وغرفةي لا يطرق بابها أحد علي مدي أيام.
كلما غاص كا بخيالات انتحاره الذي سيجري ببطء مع هذه الحرية وحبوب النوم والوسكي خاف من تلك الوحدة غير المحدودة هناك، وهذا ما جعله لا يفكر بشكل جدي بالانتحار في أي وقت.
--------------------------------------------------------------------------------
الوحيدة التي أيقظت بانتحارها شعور الوحدة هذا لدي كا هي 'ذات الإشارب' التي شنقت نفسها قبل شهر وأسبوع. كانت هذه إحدي فتيات معهد التربية اللواتي منعن بداية من الدخول إلي الصفوف بسبب عدم نزع الإشارب، وبعد ذلك منعن من الدخول إلي المعهد بموجب قرار صادر في أنقرة. كانت أسرتها هي الأسرة الأقل فقرا بين الأسر التي تحدث إليها كا. وبينما كان كا يشرب الكوكاكولا التي أخرجها أبوها من ثلاجة دكان السمانة الذي يمتلكه علم بأن الفتاة قبل أن تنتحر فتحت موضوع الانتحار لأسرتها وصديقاتها. لعل الفتاة تعلمت وضع غطاء الرأس من أمها وأسرتها، وقد علمت بأن هذا الأمر سمة الإسلام السياسي من الإداريين المؤيدين للمنع في المعهد، ومن صديقاتها المقاومات نزع الإشاربات. ولأنها رفضت نزع غطاء الرأس علي الرغم من ضغوط والديها أوشكت أن تنفصل من المعهد الذي منعتها الشرطة من دخوله لعدم تحقيق شرط الدوام. وحين رأت أن بعض زميلاتها تراجعن عن المقاومة وكشفن رؤوسهن، وبعضهن وضعن شعرا مستعارا بدأت تقول لأبيها وزميلاتها: 'ليس ثمة شيء له معني في هذه الحياة'، 'لا أريد أن أعيش'. ولأنه في تلك الأيام قد بدأت في قارص مؤسسة الشؤون الدينية التابعة للدولة والإسلاميون معها بتوزيع الإعلانات باليد، وإلصاق الملصقات التي تفيد بأن الانتحار من أكبرن هذا في البداية عبارة عن صورة أكثر مما هي فكرة، ولكنه بينما كان يتجول مسرعا في غرف المتحف نظر شاردا، ثم مع محاولته التذكر كان أمامه ما هو غير واضح مثل رسم لا يمكن أن يجسده. كان كشعور يظهر ويختفي في لحظة أكثر مما هو رسم، ولكن هذه الحال يعيشها كا أول مرة.تْ بأفكارها مدة، وبعد أن قرأت أدعية شنقت نفسها بإشاربها الذي علقته بحلقة المصباح.
- 3 -
أعطوا أصواتكم لحزب الله الفقر والتاريخ
كان الفقر بالنسبة إلي كا حين كان صغيرا هو المكان الذي تنتهي عنده حياة الطبقة الوسطي التي يعيشها في نيشان طاش والمكونة من أب محام، وامرأة ربة منزل، وأخت أصغر منه حلوة، وخادمة مخلصة، والمفروشات والمذياع والستائر، وعند انتهاء حدود 'البيت' تبدأ حدود الدنيا الأخري. كان لا يمكن أن تمسه الأيدي، ولأنه ظلام مخيف فكان لتلك الدنيا الأخري بعد (ميتا فيزيقي) في خيالات طفولة كا. وعلي الرغم من عدم تغٌير هذا البعد كثيرا في الجزء الآخر المتبقي من حياته، فإنه حين قرر الانطلاق فجأة مسافرا إلي قارص كان من الصعب تفسير حركته بنوع من العودة إلي الطفولة. علي الرغم من وجود كا بعيدا عن تركيا فهو يعرف أن قارص في السنوات الأخيرة هي المنطقة الأكثر فقرا ونسيانا. حين عاد من فرانكفورت التي عاش فيها اثنتي عشرة سنة، كانت رؤيته لشوارع اسطنبول التي سار فيها مع أصدقاء طفولته كلها، ودكاكينها، وسينماتها قد تغيرت من قمتها إلي قاعدتها، وزالت، وفقدت روحها، وهذا ما استفز في داخله إرادة البحث عن الطفولة والصفاء في مكان آخر. لهذا يمكن القول إنه اختار سفرة قارص من أجل مقارنة الطبقة الوسطي المحدودة التي تركها في طفولته مع الفقر. مع أنه حين رأي في دكاكين قارص أحذية رياضية ماركة (غيسلافد)، ومدافئ ماركة (فيزوف)، وصناديق جبنة قارص المدورة المؤلفة من ستة مثلثات وهي أول شيء عرفه عن قارص في طفولته وكان قد استعمل هذه الأشياء في طفولته ولم يعد يراها في اسطنبول، استمتع كثيرا إلي حد أنه نسي الفتيات المنتحرات، وشعر بالطمأنينة لوجوده في قارص.
وعند الظهر انفصل كا عن الصحفي السيد سردار، وبعد أن قابل البارزين من حزب مساواة الشعوب، والآذريين العلويين تجول وحده في المدينة تحت ندف الثلج الكبيرة. مشي في شارع أتاتورك، وعبر الجسور، وبينما كان يتجه إلي الأحياء الأفقر مهموما، نظر إلي جبال (صارب) الغائبة في ذلك الصمت غير المخرب سوي بنباح الكلاب. كأن زمنا غير محدد انتشر علي القلعة السلجوقية والآثار التاريخية التي لا يمكن فصلها عن الأكواخ، وحين شعر بعدم انتباه أحد إلي الثلج الهاطل طفحت عيناه بالدموع. تفرج علي الشباب الذين يبدو أنهم في المرحلة الثانوية يلعبون كرة القدم في ضوء المصابيح العالية التي تنير مستودع الفحم والفسحة المجاورة لحديقة حي يوسف باشا المنزوعة أراجيحه، والمكسرة سحيلاته. وبينما كان يستمع إلي صراخ الشباب وتبادلهم الشتائم وقد خفت درجة صوتهم في الثلج شعر بقوة بالضوء الأصفر المنبعث من المصابيح العالية، والبعد عن كل شيء في هذه الزاوية من العالم تحت الثلج النادف ظهرت بداخله فكرة الله.
كان هذا في البداية عبارة عن صورة أكثر مما هي فكرة، ولكنه بينما كان يتجول مسرعا في غرف المتحف نظر شاردا، ثم مع محاولته التذكر كان أمامه ما هو غير واضح مثل رسم لا يمكن أن يجسده. كان كشعور يظهر ويختفي في لحظة أكثر مما هو رسم، ولكن هذه الحال يعيشها كا أول مرة.
نشأ كا وسط أسرة جمهورية علمانية في اسطنبول. لم يتلق أي تعليم إسلامي خارج دروس الدين التي تلقاها في المرحلة الابتدائية. عندما بدأت تظهر خيالات كهذه داخله في أحيان متقطعة لم يسيطر عليه الأرق كما لم يشعر بدافع شاعري للذهاب وراء هذا الارتجاف. كان علي الأغلب يولد في داخله فكرة متفائلة بأن العالم مكان جميل يمكن الفرجة عليه.
في غرفة الفندق الذي عاد إليه من أجل الدفء والنوم قليلا قلٌب الكتب التي أحضرها معه من اسطنبول حول تاريخ قارص شاعرا بهذا الشعور السعيد، وتداخل في عقله هذا التاريخ الذي ذكٌره بحكايات طفولته مع ما استمع إليه طوال اليوم.
في أحد الأزمان عاش في أحد قصور قارص التي تذكٌِر كا ولو من بعيد بسنوات طفولته رجل غني من الطبقة الوسطي، كان يقيم حفلات البالو، والولائم التي تستمر أياما. وكان هؤلاء الناس يستمدون قوتهم من كون قارص في أحد الأيام كانت علي طريق جورجيا وتبريز والقوقاز وتفلس أي من التجارة ولأنها نقطة متطرفة مهمة بين أهم إمبراطوريتين انهارتا في القرن الماضي وهما روسيا القيصرية والدولة العثمانية، ومن الجيوش الضخمة التي وضعتها الإمبراطوريات في هذا المكان وسط الجبال لحمايتها. في المرحلة العثمانية عاش في هذا المكان أقوام مختلفون، مثلا الأرمن الذين ما زالت كنائسهم التي أنشؤوها قبل ألف سنة تقف بعظمتها، والعجم الذين هربوا من جيوش المغول وإيران، والروم المتبقين من الدولتين البيزنطية والبونتوسية، والجيورجيون، والأكراد، وكل أنواع أقوام الجركس. وبعد أن استسلمت القلعة التي عمرها خمسمائة سنة للجيش الروسي عام 1878 نفي قسم من المسلمين، ولكن غني المدينة واختلاطها استمر. وفي المرحلة الروسية بينما كانت تتراجع قصور الباشوات والحمامات والأبنية العثمانية في حي (تحت القلعة) المقام علي سفوح القلعة أنشأ بناؤو القيصر في السهل جنوب نهر قارص مدينة جديدة مؤلفة من خمسة شوارع رئيسة توازي بعضها بعضا وبينها أزقة عمودية تماما عليها وقد غنيت بسرعة. هذه المدينة التي كان يلتقي فيها القيصر الكسندر الثالث حبيبته السرية، ويخرج منها إلي الصيد، قدم لها الروس دعما ماليا كبيرا لإنشائها من جديد لأنها مناسبة لمخططاتهم بالنزول إلي الجنوب نحو البحر المتوسط، والسيطرة علي طرق التجارة. هذه المدينة التي جاءها كا قبل عشرين سنة وسحرته بشوارعها، وأحجار أرصفتها الضخمة، وأشجار الكستناء والزعرور التي زرعتها الجمهورية التركية أضحت حزينة جرٌاء حروبها القومية والقبلية واحترقت أبنيتها الخشبية وهدمت ولم تعد مدينة عثمانية.
وبعد حروب، ومجازر، وتطهير عرقي وتمردات لا تنتهي، وبعد أن سقطت بيد الأرمن والروس، وحتي بيد الجيش الإنكليزي في إحدي الفترات، وبعد أن صارت قارص لفترة قصيرة دولة مستقلة، دخل إلي المدينة في تشرين الأول من عام 1920 الجيش التركي بقيادة ناظم قرة بكر الذي نّصِبّ فيما بعد تمثالا له في ساحة المحطة. الأتراك الذين دخلوا مرة أخري إلي المدينة بعد ثلاث وأربعين سنة أعجبوا بالمخطط الجديد المنسجم مع البنية القيصرية، وسكنوا فيها، ولأن الثقافة التي جاء بها القياصرة إلي المدينة متوافقة مع انفعال الجمهورية نحو التغريب فأيدوها بداية، ولأنهم لا يعرفون أكبر من العسكر أطلقوا علي شوارعها الخمسة أسماء باشوات خمسة من تاريخ قارص.
هذه هي سنوات التغريب التي شرحها مباهيا وغاضبا السيد مظفر رئيس بلدية أسبق من حزب الشعب، كانت تقام فيها حفلات راقصة في المراكز الشعبية، ومسابقات تزلج علي الجليد تحت الجسر الحديدي الذي رآه كا صباحا حين مرٌّ عليه ووجد أنه صدئ في كثير من أمكنته، ومسرحيون يأتون من أنقرة لتمثيل تراجيديا الجمهوريين القارصيين، وكان الأغنياء السابقون يتنزهون وهم يرتدون المعاطف ذات ياقات الفراء علي زلاجات تجرها خيول مجرية مزينة بالورود والأشياء البراقة، وكانت تقام آخر الرقصات في حفلات بمرافقة عزف البيانو والأوكورديون، والكلارنت تحت أشجار (الأقاقيا) في حديقة الشعب من أجل دعم فريقهم لكرة القدم، ويمكن لفتيات قارص أن يتجولن صيفا وسط المدينة بألبسة قصيرة الأكمام وهن راكبات علي الدراجات الهوائية، وحين كان الشباب يذهبون إلي الثانويات متزلجين علي الجليد، وهم يضعون ربطة عنق الفراشة ويرتدون الجاكيتات مفعمين بانفعال الجمهورية مثل كثير من الشباب. حين حاول المحامي السيد مظفر وضع ربطة العنق الفراشة التي كان يضعها أيام الثانوية بعد سنوات بعد أن عاد مرشحا لرئاسة البلدية، وفي أثناء انفعالات الانتخابات في قارص، قال له أصدقاؤه في الحزب بأن هذا الأمر 'الداعي إلي السخرية' يؤدي إلي ضياع الأصوات، ولكنه لم يطاوعهم.
كان هنالك علاقة بين الشتاءات اللامتناهية وانحساراتها وبين انحطاط المدينة، وفقرها، وحزنها. وبعد أن قدم رئيس البلدية الأسبق رؤيته حول الشتاءات الجميلة الماضية، وتحدث عن الممثلات شبه العاريات المدهونات بالبودرة القادمات من أنقرة لتمثيل مسرحية يونانية، انتقل بحديثه إلي عمل مسرحي انقلابي مثلته مجموعة من الشباب كان هو بينهم في أواخر الأربعينيات في المركز الشعبي وقال: 'يحكي العمل عن يقظة فتاة ذات غطاء أسود، وفي النهاية تكشف رأسها وتترك الغطاء'. وفي نهاية الأربعينيات جلبوا غطاء الرأس اللازم للمسرحية من أرضروم 'لأنهم بحثوا في قارص، ونشروا الخبر في كل مكان لكنهم لم يجدوا' ثم أضاف السيد مظفر: 'أما الآن فإن الأغطية، والملاحف، والإشاربات تملأ شوارع قارص، وينتحرن لعدم استطاعتهن الدخول إلي الدروس وعلي رؤوسهن ذلك العلم رمز الإسلام السياسي'.
وكما في كل مقابلة لكا في قارص، سكت عن الأسئلة المتصاعدة في داخله حول موضوع نهوض الإسلام السياسي، والفتيات ذوات الإشاربات. بالشكل نفسه لم يتوقف عند عرض الشباب الناريين المناهض للغطاء في الأربعينيات علي الرغم من عدم وجود امرأة واحدة تتغطي في قارص. كما أنه لم يعر انتباها للنساء المغطيات، أو ذوات الإشاربات اللواتي رآهن طوال اليوم وهو يتجول في شوارع المدينة، لأنه لن يستطيع علي مدي أسبوع الحصول علي معلومات مثقف علماني وعاداته التي تمكنه من خلال نظرة واحدة إلي كثرة النساء المغطيات رؤوسهن استنتاج نتائج سياسية. كما أنه منذ صغره لم يكن يعير اهتماما للنساء المغطيات أو ذوات الإشاربات. لأنه في أوساط المغرٌبين الاسطنبولية التي قضي كا طفولته فيها لم تكن هنالك من تغطي رأسها إلا القادمة من جوار اسطنبول لبيع العنب. مثلا كان هنالك واحدة تأتي من كروم (قرطل)، أو زوجة بائع الحليب، أو واحدة من طبقة اجتماعية أدني.
أما حول الأصحاب السابقين لفندق (ثلج بلاس) الذي يقيم فيه كا فقد استمعتج فيما بعد إلي حكايات كثيرة: بروفيسور في الجامعة معجب بالغرب أرسله القيصر إلي منفي أخف من سيبريا، أرمني يعمل بتجارة العجول، وملجأ أيتام رومي ... وليكن صاحبه من يكن فإن هذا البناء الذي يمتد عمره إلي مائة وعشر سنوات كأبنية قارص الأخري بني بحيث توضع فيه مدافئ تسمي (بتش) تدفئ واجهاته الأربع، وكل مدفأة منها تدفئ أربع غرف في آن واحد. ولكن الأتراك في عصر الجمهورية لم يستطيعوا تشغيل أية واحدة منها، لذلك قام صاحب البيت التركي الأول الذي حوله إلي فندق بوضع مدفأة ضخمة من (الفونط) في البهو وراء الباب مباشرة، وفيما بعد ركب للغرف تدفئة مركزية.
بينما كان كا متمددا في سريره سارحا في خيالاته قرع الباب، فنهض من حيث يتمدد بمعطفه، وفتحه. جاويت الكاتب الذي قضي يومه كله بجانب المدفأة يتابع التلفاز، جاء ليخبره بما نسيه حين قدٌم له المفتاح.
'نسيت قبل قليل. السيد سردار صاحب جريدة مدينة سرهات ينتظركم لأمر عاجل.'
نزلا معا إلي البهو. حين كان كا يهم بالخروج توقف لحظة: دخلت إبيك من الباب المجاور لطاولة الاستقبال وكانت أجمل بكثير مما تخيله كا. تذكٌر كا فورا جمال تلك المرأة أيام الجامعة. بداية تصافحا مثل بورجوازيين اسطنبوليين متحولين إلي غربيين، وبعد تردد خفيف مالا برأسيهما إلي الأمام وتعانقا دون أن يقربا جزئي جسميهما السفليين.
قالت إيبك مبتعدة قليلا بجسدها، وبصراحة أدهشت كا: 'أعرف أنك ستأتي' وبينما كانت تركز بصرها إلي وسط عيني كا أضافت: 'هاتفني طانر وأخبرني'.
'جئت من أجل انتخابات البلدية والفتيات المنتحرات'.
قالت إيبك: 'كم ستبقي؟ بجانب فندق آسيا ثمة محل للمعجنات اسمه الحياة الجديدة. أنا مشغولة مع أبي الآن. لنلتق هناك في الواحدة والنصف ونتحدث.'
كان كا يشعر بغرابة هذا المشهد لأنه جري في قارص وليس في اسطنبول، (مثلا في بيه أوغلو). ولم يستطع تحديد نسبة ارتباكه الناجمة عن جمال إيبك. بعد أن خرج إلي الشارع ومشي فترة تحت الثلج فكر بحسن جلبه لهذا المعطف.
وبينما كان يسير نحو الجريدة قالت له أحاسيسه، مع قلبه بالحدة غير المخطئة نفسها، بما يمكن لعقله أن يعترف به أبدا: أولا: بقدر ما أن سبب مجيء كا من فرانكفورت إلي اسطنبول من أجل اللحاق بتشييع أمه فقد جاء من أجل إيجاد فتاة تركية بعد اثنتي عشرة سنة من الوحدة. ثانيا: جاء كا من اسطنبول إلي قارص لأنه يؤمن سرا بأن إيبك هي الفتاة التي سيتزوجها.
لو أن صديقا قوي الحدس قال له الفكرة الثانية هذه لما غفر له كا في أي وقت، كما أنه سيدين نفسه خجلا طوال حياته لصحة هذا الاحتمال. كان كا من (الأخلاقيين) جعل نفسه يؤمن بأن السعادة الكبري هي عدم قيام الإنسان بأي شيء من أجل سعادته الشخصية. فوق هذا فإنه لا يستطيع مواءمة البحث عن واحدة يعرف عنها القليل جدا بنيٌة الزواج منها مع تعليمه الغربي الراقي. علي الرغم من هذا حين وصل إلي جريدة مدينة سرهات لم يكن يشعر بالأرق. لأن لقاءه الأول مع إيبك في خياله عندما كان قادما من اسطنبول في الحافلة مّرٌّ بشكل حسن.
كانت جريدة مدينة سرهات بعد شارع في أسفل الفندق الذي يقيم فيه كا، والمساحة التي تغطيها شؤون التحرير والمطبعة أكبر من غرفة كا الصغيرة في الفندق بقليل. بواسطة قاطع خشبي قسمت إلي قسمين وعلٌِق فيها صور أتاتورك، وتقويمات، ونماذج بطاقات دعوة، والصٌور التي طلب السيد سردار التقاطها لكبار رجال الدولة ومشاهير الأتراك الذين قدموا إلي قارص، وصورة مؤطرة لأول عدد من الجريدة صدرّ قبل أربعين سنة. في الخلف كانت تعمل بشكل ممتع آلة تيبو كهربائية ذات ذراع بدالة صجنعت قبل مائة وعشر سنوات في شركة (باومان) في (لايبزغ) اشتغلت في هامبورغ ربع قرن، وفي مرحلة حرية النشر بعد المشروطية الثانية بيعت إلي اسطنبول عام 1910، وهناك بعد أن عملت خمسا وأربعين سنة، وحين كانت ستحول إلي خردة، جلبها والد السيد سردار إلي قارص بواسطة القطار عام 1955. السيد سردار يبصق علي إصبع يده اليمني ويغذي الآلة بالورق وابنه الذي في الثانية والعشرين من عمره يجمع بيده اليسري بمهارة لأن سلة الجمع كسرت قبل إحدي عشرة سنة في أثناء شجار أخوة، وفي هذه الأثناء أيضا يمكنه تحية كا بلمح البصر. والابن الثاني الذي لم يشبٌهه كا لأبيه بل لأمه التي ارتسمت في خياله لحظتئذ ذات عينين مرفوعتي الطرفين ووجه قمري، قصيرة القامة وبدينة: جلس خلف طاولة العمل السوداء الداكنة من الصباغ وبين مئات العينات وأعداد هائلة من الدروج الصغيرة وسط حروف الرصاص المختلفة الأبعاد، والقوالب والكليشيهات يجنّضٌِدج يدويا إعلانا بدقة خطاط تخلي عن هذه الدنيا وصبٌره حبره لعدد الجريدة الذي سيصدر بعد ثلاثة أيام.
قال السيد سردار: 'إنكم ترون تحت أي ظرف تخوض صحافة شرق الأناضول صراع العيش' في اللحظة ذاتها انقطع التيار الكهربائي. وحين توقفت آلة الطباعة وغمر الدكان ظلام سحري رأي كا جمال بياض الثلج الهاطل في الخارج.
قال السيد سردار: 'كم واحدة صارت؟' ثم أشعل شمعة، وأجلس كا علي كرسي في المكتب في القسم الأمامي.
'مائة وستين يا أبي'.
'حين تأتي الكهرباء اعمل ثلاثمائة وأربعين. لدينا اليوم ضيوف مسرحيون.'
كانت تباع جريدة مدينة سرهات في مكان واحد من قارص وهو مقابل مسرح الشعب، ويمر عشرون شخصا من هناك يشترونها، ولكن بحسب مايقوله السيد سردار مباهيا فإنه بفضل الاشتراكات يصل البيع إلي ثلاثمائة وعشرين نسخة. مئتان من هذه الاشتراكات هي المحلات ودوائر الدولة في قارص التي يضطر السيد سرهات لمديحها. الاشتراكات الثمانون الباقية هي لأشخاص 'مهمين وشرفاء' أصحاب كلمة مسموعة في الدولة ولم يقطعوا علاقاتهم مع المدينة علي الرغم من تركهم لها وإقامتهم في اسطنبول.
جاءت الكهرباء ورأي كا في جبين السيد سردار عّرّقّا غاضبا بارزا في جبهته.
قال السيد سردار: 'بعد أن تركتمونا التقيتم مع أناس خطأ، وحصلتم علي معلومات خاطئة حول مدينتنا مدينة سرهات.'
قال كا: 'كيف عرفت إلي أين ذهبت؟'
قال الصحفي: 'الشرطة تتعقبكم بالطبع. ونحن لضرورة العمل نتنصت إلي مكالمات الشرطة بوساطة هذا اللاسلكي. ثمانون بالمائة من الأخبار التي ننشرها في جريدتنا تقدمها لنا المحافظة ومديرية الأمن. مديرية الأمن كلها تعرف بأنكم تسألون الجميع عن سبب تخلف قارص إلي هذا الحد، وعن سبب فقرها، وعن أسباب انتحار فتياتنا.'
كان قد استمع إلي عدد من الأحاديث عن سبب وقوع قارص من هذه الدرجة من الفقر مثل انخفاض التجارة مع السوفييت أيام الحرب الباردة، وإغلاق أبواب الجمارك: وسيطرة العصابات الشيوعية علي البلد عام 1970 وتهديدها للأغنياء وخطفهم: وذهاب الأغنياء الذين جمعوا مقدارا من رأس المال كلهم إلي اسطنبول وأنقرة: نسيان الله والدولة لقارص: الصراع غير المنتهي بين تركيا أو أرمينيا..
قال السيد سردار: 'أنا قررت أن أخبركم بحقيقة الأمر.'
بنباهة وتفاؤل لم يشعر (كا) بهما علي مدي سنوات فهم فورا بأن أساس الموضوع يدعو إلي الخجل. وأساس الموضوع بالنسبة إليه كان في ألمانيا أيضا يدعو إلي الخجل، ولكنه خبأ خجله عن نفسه. ولأنه يمكنه أن يقبل هذه الحقيقة بسبب أمل السعادة الذي يشعر به.
قال السيد (سردار) وكأنه يبوح بسرٌ: 'نحن كنا هنا جميعا أخوة. ولكن في السنوات الأخيرة بدأ كل شخص يقول أنا آذري، أنا كردي أنا تركي. من المؤكد أنه يوجد هنا من كل القوميات. ونقول أيضا يوجد تركميين، وقرة ببكين. وهم أخوة للآزاريين. ونحن نسمي الأكراد عشائر، ولم يعرفوا فيما مضي كرديتهم. المحليون المنحدرون من العثمانيين لم يقل أحدهم مباهيا: أنا محليٌ. وكان هنالك تركمان، ومن لاظ، البوسوف وألمان نفاهم قيصر روسيا، ولا أحد يباهي بانتمائه أمام أحد. ونشرت هذه المباهاة كلها إذاعة تفلس الشيوعية من أجل تقسيم تركيا وهدمها. والآن الجميع أفقر، وأكثر مباهاة.'
حين وصل السيد سردار إلي قرار بأن كا قد تأثر، انتقل إلي موضوع آخر. جماعة الدين تتجول علي البيوت بيتا بيتا، وتأتي إلي بيتك ضيفة وتقدم للنساء مواعين وقدورا، وآلات عصر برتقال، وصناديق صابون وبرغل، ومنظفات غسيل، وتؤسس في الأحياء الفقيرة صداقات بسرعة، وتقارب بين النساء، وتعلٌق علي أكتاف الأطفال الصغار دبابيس ذهبية. وتقول أعطوا أصواتكم لحزب الرفاه حزب الله، وتقول أيضا إن سبب هذا الفقر والبؤس الذي حل علينا هو أننا ابتعدنا عن طريق الله. الرجال يكلمون الرجال، والنساء يتكلمن مع النساء. يكسبون ثقة العاطلين عن العمل الغاضبين مجروحي الكرامة. يجفرِح العاطلون عن العمل نساءهم اللواتي لا يجدن ما يطبخنه في المساء، بعد ذلك يوعدون بهدايا جديدة ويجعلونهم يقسمون بأنهم سيعطون أصواتهم لهم. لا يقتصرون علي كسب احترام الأفقر، والعاطل عن العمل المهان صباحّ مساء، بل طلاب الجامعة الذين لا يدخل إلي بطونهم أكثر من صحن حساء يوميا، والعمال المياومين، وحتي أصحاب الدكاكين لأنهم أكثر من الجميع نشاطا واستقامة.
قال صاحب جريدة مدينة سرهات بأن رئيس البلدية لم يقتل لأنه 'عصري' وحاول إزالة العربات التي تجرها الخيول (لأنه قتل، فلم تكتمل محاولته هذه فقط)، بل جذب كره الجميع بسبب الرشوة والفساد. إن الأحزاب الجمهورية المنقسمة علي ذاتها بسبب قضايا الثأر القديمة، والفصل القومي والعرقي، والداخلة في تنافس هدام بين يسار ويمين لم يستطع أحدها تقديم مرشح قوي. قال السيد سردار: 'لا يوثق سوي بشرف مرشح حزب الله. وهذا المرشح هو السيد مختار الزوج السابق (لأيبك) ابنة السيد طورغوت صاحب الفندق الذي يقيمون فيه. إنه خفيف العقل قليلا ولكنه كردي. الأكراد هنا يشكلون أربعين بالمائة من السكان سيكسب الانتخابات حزب الله.'
الثلج الذي بدأ يندف بغزارة أشد أيقظ في كا الإحساس بالوحدة مجددا، وكان يرافق الإحساس بالوحدة هذا شعور توجس من أن حياة التحول نحو الغرب في تركيا والتي نشأ وعاش وسطها في اسطنبول قد وصلت إلي نهايتها. وتراءي له أن الشوارع التي عاش فيها طفولته، والأبنية القديمة الظريفة المتبقية من قرن والتي يسكن بعضها أصدقاؤه كلها تخربت، أشجار طفولته جفت وقطعت، وأغلقت دور السينما خلال عشر سنوات، وحولت إلي دكاكين ضيقة ومظلمة متراصفة لصناعة الألبسة الجاهزة، وهذا لا يعني نهاية طفولته كلها فقط، بل نهاية خياله بالعيش في اسطنبول من جديد. وخطر بباله أنه لو ترسخ في تركيا نظام شريعة قوي لن تستطيع أخته الخروج إلي الشارع دون تغطية رأسها. في ضوء النيون المنبعث من مصابيح جريدة مدينة سرهات نظر إلي ندف الثلج الكبيرة الساقطة بطيئا وتخيل أنه عاد إلي فرانكفورت مع إيبك، يتسوقان معا أحذية نسائية من الطابق الثاني في (كاوفهوف) حيث اشتري معطفه الرمادي الذي يلتف به بقوة.
'كل شيء هو جزء من الحركة الإسلامية الدولية التي تريد أن تجعل تركيا شبيهة بإيران'
قال كا: 'والفتيات المنتحرات أيضا هكذا؟'
'إننا نتلقي إخبارات بأنهن مع الأسف خدعن، ولأن الفتيات حساسات أكثر، وخشية من زيادة الانتحار أكثر ولما تفرضه علينا مسؤوليتنا لا نكتب عن هذا. يقال بأن (كحليا) الإرهابي الإسلامي الشهير موجود في مدينتنا، من أجل توجيه ذوات الإشاربات الانتحاريات.'
'أليس الإسلاميون ضد الانتحار؟'
لم يججِبْ السيد سردار عن هذا. حين توقفت آلة الطباعة، وخيٌم الصمت، بدأ كا يتفرج علي الثلج النادف في الخارج بشكل رهيب. القلق المتصاعد تدريجيا لأنه سيلتقي إيبك بعد قليل مناسب تماما للشعور بالهم لهموم قارص من أجل التغلب علي الخوف، ولكن كا الآن يفكر بإيبك فقط، ويريد تحضير نفسه للقاء في محل المعجنات، لأن الساعة الآن تشير إلي الواحدة وعشرين دقيقة.
شاعرنا الشهير كا في قارص
شاعرنا كا المعروف في تركيا كلها جاء البارحة إلي مدينتنا مدينة سرهات.
وقد حاز علي تقدير البلد كله من خلال كتبه: (الرماد) و (مندلينا)، و(جرائد المساء)، وشاعرنا الشاب الفائز بجائزة (بهجت نجاتي غول) جاء إلي مدينتنا مندوبا عن جريدة الجمهورية من أجل تغطية الانتخابات. كان الشاعر كا منذ سنوات عديدة في مدينة فرانكفورت الألمانية يبحث في الشعر الغربي.
قال كا: 'إن اسمي صجفٌ بشكل خاطئ، يجب أن يكون حرف (ا) صغيرا' وفور قوله هذا ندم فقال بإحساس المدان: 'إنه جميل'
قال السيد سردار: 'يا أستاذ، بحثنا عنك لأننا لم نكن واثقين من اسمكم' ثم نادي علي أولاده موبخا دون ارتباك 'ابني! انظر يا ابني، كتبتما اسم شاعرنا خطأ' وشعر كا بأن هذا ليس أول انتباه علي خطأ تنضيد 'صححوه الآن فورا'.
قال كا: 'ما الضرورة لهذا' وهذه المرة رأي التنضيد الصحيح لاسمه في السطر الأخير لأكبر خبر.
في مسرح الشعب ليلة الظفر لفرقة صوناي ظائم
لاقي عرض ليلة البارحة علي خشبة مسرح الشعب الذي قدمته فرقة صوناي ظائم الشهيرة علي صعيد تركيا كلها بنصوصها الشعبية الأتاتوركية التنويرية اهتماما وانفعالا كبيرين، وقد قطع بالتصفيق وعبارات الإعجاب العرض الذي استمر حتي منتصف الليل وحضره معاون المحافظ ونائب رئيس البلدية ومسؤولو المدينة الكبار. القارصيون الذين ملؤوا مسرح الشعب متعطشون لعرض مسرحي من هذا النوع، تمكنوا من متابعة العرض في بيوتهم أيضا. لأن تلفزيون سرهات قارص في تاريخه الممتد إلي سنتين حقق بثه الحي الأول مقدما هذا العمل الرائع للقارصيين جميعا في اللحظة ذاتها. وبهذا حقق تلفزيون سرهات قارص أول بث حي من خارج استديوهاته، ولأنه لا يمتلك عربة نقل حي بعد فقد مد كابلا من مركزه في شارع خالد ثابت إلي مسرح الشعب حيث الكاميرا وصل طوله إلي عرض شارعين. ولكي لا يتأثر بالثلج مرر القارصيون أصحاب المروءة الكابل من بيوتهم (مثلا طبيبنا للأسنان السيد فاضل، أخذ الكابل من شرفته الأمامية، ومده نحو الباحة الخلفية). ويريد القارصيون أن يتكرر هذا البث الحي الناجح في فرص أخري. وقال مسؤولو تلفزيون سرهات قارص إنه بفضل هذا البث الحي الأول من خارج الاستديو قدم أصحاب المحلات في قارص للتلفزيون إعلاناتهم. وفي العرض الذي شاهدته مدينة سرهات كلها كان هنالك توليفة من النصوص الأتاتوركية، ومشاهد من أجمل الأعمال المسرحية الشهيرة التي أثمرت عن التنوير الغربي، والألاعيب النقدية للإعلانات التي تقرض ثقافتنا، ومغامرات حارس
--------------------------------------------------------------------------------
مرمانا القومي الشهير (فورال)، وأشعار أتاتورك، وآخر قصيدة كتبها شاعرنا الشهير كا الذي يزور مدينتنا بعنوان (ثلج) قرأها بنفسه. غير هذا هنالك إعداد جديد للعمل التنويري العظيم المكتوب في أولي سنوات الجمهورية المسمي: 'إما الوطن أو الملحفة' باسم جديد هو: 'إما الوطن أو الإشارب'.
'ليس لدي قصيدة عنوانها: ثلج، ومساء لن أذهب إلي المسرح. سيظهر أن خبركم خاطئ.'
'لا تكونوا واثقين إلي هذا الحد. لا تستهينوا بنا لأننا كتبنا الخبر قبل أن تجري الوقائع كثيرون اعتقدوا بأن مانقوم به ليس صحافة، بل كهانة، ولكن بعد جريان الوقائع بالشكل الذي كتبناه لم يستطيعوا إخفاء دهشتهم. كثير من الحوادث تحققت لأننا قدمنا خبرها بشكل مسبق فقط. هذه هي الصحافة الحديثة. أنا واثق أنكم بداية ستكتبون قصيدة بعنوان (ثلج) بعد ذلك ستذهبون لإلقائها لكي لايؤخذ من يدنا حق أن نكون حداثويين في قارص ولكي لاتكسروا بخاطرنا'.
وبين إعلانات التجمعات الانتخابية، وأخبار البدء بتطبيق اللقاح القادم من أرضروم علي طلاب الثانوية، وقيام البلدية بتقديم تسهيل جديد للقارصيين بتأجيل ديون فواتير الماء شهرين، قرأ كا خبرا آخر لم ينتبه إليه للوهلة الأولي بين تلك الأخبار.
الثلج قطع الطرق
الثلج النادف علي مدي يومين أغلق المواصلات كلها مع العالم. بعد أن أغلق البارحة صباحا طريق (أردهان)، أغلق بعد الظهر طريق (صاري قمش). وبسبب تراكم الثلوج والجليد في منطقة (يول غتشماز) أغلق الطريق المؤدي إلي أرضروم وهذا ما جعل حافلة شركة يلماظ الذاهبة إلي أرضروم تعود إلي قارص. وقد أعلنت الأرصاد الجوية بأن موجة البرد القادمة من سيبريا وندف الثلج الكبيرة ستستمر ثلاثة أيام أخري. وستعاني قارص علي مدي ثلاثة أيام من عزلة كما كان يجري أيام الشتاء القديمة. وهذه فرصة لإعادة ترتيب أنفسنا.
لحظة نهوض كا للخروج قفز السيد سردار من مكانه، وأمسك الباب لكي يسمعه ما سيقول أخيرا. قال: 'من يعلم ماذا سيحكي لكم السيد طورغوت وابنته! إنهم أناس أحادثهم بحرارة في الأماسي ولكن لاتنسوا: زوج إيبك خانم السابق هو مرشح حزب الله لرئاسة البلدية. يقولون إن أختها التي جلبتها هي وأبوها لتدرس هنا والمدعوة (قديفة) هي أشد الفتيات ذوات الإشاربات نضالا. أبوها شيوعي سابق! لم يفهم حتي اليوم شخص واحد في المدينة كلها سبب مجيئهم إلي هنا قبل أربع سنوات في أسوأ أيام قارص'. علي الرغم من سماع كا كثيرا من الأشياء الجديدة التي تقلقه دفعة واحدة، ولكنه لم يبال.
- 4 -
هل أتيتم إلي هنا حقيقة من أجل الانتخابات والانتحارات؟
كا وإيبك في محل الحياة الجديدة للمعجنات
علي الرغم من علمه بالخبر السيٌيء وهو يسير من شارع فائق بيك نحو محل الحياة الجديدة للمعجنات تحت الثلج لماذا كان علي وجه كا ابتسامة غير واضحة تماما؟ تصدح في أذنيه 'روبيرتا' ل 'ببينو دي كابري' ويري نفسه رومانتيكيا ومكدرا مثل بطل رواية تورغينيف ذاهبا للقاء المرأة التي تخيلها علي مدي سنوات. كان كا يحب تورغينيف ورواياته الظريفة الذي يحلم من أوربا ببلده الذي تركه مستهينا به ومتعبا من بدائيته، ومن الأسئلة غير المتناهية. ولكن لأقل الحقيقة: لم يحلم بإيبك علي مدي سنوات كما في رواية تورغينيف. لقد تخيل امرأة مثل إيبك فقط. ولعلها خطرت بباله في بعض الأحيان. ولكنه حين علم بأنها انفصلت عن زوجها بدأ يفكر بها. والآن يريد إغلاق فجوة عدم تخيله لها بالموسيقي التي يسمعها ورومانتيكية تورغينيف، من أجل أن يستطيع تأسيس علاقة حقيقية وعميقة مع إيبك.
لكنه حين دخل إلي محل المعجنات وجلس معها إلي الطاولة نفسها فقد رومانتيكية تورغينيف التي في رأسه. إيبك أيضا أجمل مما كانت عليه حين رآها في الفندق ومما كانت أيام الجامعة. واقعية جمالها وشفتاها المصبوغتان بشكل خفيف، ولون بشرتها الذاوي، وبريق عينيها، وحالتها القريبة من القلب جعلت كا مرتبكا. بدت إيبك فجأة قريبة من القلب، وطبعا كان كا يخشي ألا تكون كذلك. وهذا ما أشعل الدرجة الثانية من مخاوفه في الحياة بعد خشيته من كتابة شعر سيٌيء.
قال قلقا من فتح موضوع ما: 'في الطريق رأيت العمال يسحبون كابل البث الحي من تلفزيون سرهات قارص إلي مسرح الشعب، كأنهم يشدون حبل غسيل'. ولكنه لم يبتسم لخجله من الظهور مستهينا بنواقص حياة الأطراف.
بقيا فترة يبحثان عن موضوعات مشتركة يمكنهما الحديث فيها بشكل مطمئن كأي اثنين قررا التفاهم بنية حسنة. حين ينتهي الموضوع تبتسم إيبك موجدة موضوعا آخر. الثلج النادف، وفقر قارص، ومعطف كا، وإيجاد كل منهما الآخر قد تغير قليلا جدا، وعدم ترك التدخين، والأشخاص الذين قابلهم كا في اسطنبول البعيدين عنها كلاهما... وكون أميٌهما ماتتا، ودفنتا في مقبرة (فيري كوي) في اسطنبول قربهما من بعضهما بعضا كما أرادا. وبالراحة المؤقتة التي شعرا بها نتيجة كونهما من البرج نفسه حتي لو كانت مصطنعة تحدثا عن مكانة أميهما في حياتهما (باختصار)، وعن أسباب هدم محطة القطار في قارص (مدة أطول)، وعن كون محل المعجنات الذي يجلسان فيه كنيسة أرثوذكسية حتي عام 1967 ووضع باب الكنيسة المهدومة في المتحف، وعن القسم الخاص بالمجازر التي ارتكبها الأرمن بحق الأتراك (بعض السياح يعتقدون أن هذا المكان للمجازر التي ارتكبها الأتراك بحق الأرمن، ولكنهم بعد ذلك يفهمون أنه عكس ذلك)، وعن نادل محل المعجنات شبه الأصم وشبه الشبح، وعن عدم بيع القهوة في مقاهي قارص لغلائها علي العاطلين عن العمل وعن الرؤي السياسية للصحيفة التي يجول صاحبها كا، والصحف المحلية الأخري (كلها تؤيد الجيش، والحكومة القائمة) وعدد الغد من جريدة مدينة سرهات الذي أخرجه كا من جيبه.
حين بدأت إيبك تقرأ الصفحة الأولي من الجريدة بانتباه شديد خشي كا من أنها لايمكن أن تفكر مجرد التفكير بالعيش في ألمانيا مثل أصدقائه القدامي الذين قابلهم في اسطنبول، وبالنسبة له فإن الأمر الحقيقي الوحيد لتركيا هو عالمها السياسي البائس الذي يكوي القلوب. نظر كا طويلا إلي يديها الصغيرتين، وإلي وجهها الظريف الذي مازال بالنسبة إليه جميلا إلي درجة مدهشة.
سألت إيبك 'كم سنة حجكِمْت، وبأية مادة؟' بعد ذلك ابتسمت مشفقة.
أخبرها كا. في أواخر السبعينيات كانت الصحف السياسية الصغيرة في تركيا تستطيع كتابة كل شيء، وكل شخص يحاكم، ويصدر بحقه حكم وفق هذه المادة من قانون العقوبات فيفخر بها الشخص. ولكن لم يكن يدخل أحد إلي السجن، لأن الشرطة لم تتناول الموضوع بجدية وتبحث عن مدراء التحرير والكتاب والمترجمين الذين يغيرون عناوينهم. فيما بعد حين حدث الانقلاب العسكري بدأ يعتقل الذين غيروا عناوينهم أيضا تدريجيا، وبسبب مقالة سياسية لم يكتبها، ونشرها علي عجل دون أن يقرأها حجكم كا، وهرب إلي المانيا.
سألته إيبك: 'هل لاقيت صعوبات في ألمانيا؟'.
قال كا: 'ما حماني هو عدم استطاعتي تعلم الألمانية. لقد قاوم جسمي الألمانية، وفي النهاية حمي صفائي وروحي.'.
حكي كا حكايته التي لايعرفها أحد عن الصمت الذي دفن نفسه فيه وعدم كتابته الشعر علي مدي أربع سنوات وهو خائف أن يكون مضحكا لشرحه كل شيء، ولكنه سعيد لاستماع إيبك له.
'في المساء عادة وفي شقتي المستأجرة الصغيرة القريبة من محطة القطار، وعند نافذتها المطلة علي سقوف فرانكفورت كنت أتذكر اليوم الذي خلفته ورائي بنوع من الصمت، وهذا ما يجعلني أكتب الشعر. فيما بعد حين سمع المهاجرون الأتراك بأنني شاعر حظيت بقليل من الشهرة في تركيا، كما سمعت بالبلديات التي تعمل علي جذب الأتراك، والمكتبات، والمدارس من الدرجة الثالثة، والجماعات التي تريد أن تعرف أبناءها بشاعر يكتب بالتركية بدأت تدعوني لإلقاء الشعر'.
يركب كا أحد القطارات الألمانية المعجب بدقة مواعيدها ونظامها من فرانكفورت وينظر عبر مرآة النافذة المدخنة إلي أبراج الكنائس الظريفة في البلدات البعيدة، وإلي الظلمة في قلب غابات السنديان، وأثناء مرور الأطفال ذوي البنية السليمة وعلي ظهورهم حقائبهم. المدرسية يشعر من جديد بالصمت نفسه، ويشعر بأنه في بيته لعدم معرفته لغة هذا البلد، ويكتب شعرا. وإذا لم يكن ذاهبا إلي مدينة أخري لإلقاء الشعر يخرج صباحا في الساعة الثامنة من بيته ويسير علي طول شارع كايزر، ويدخل إلي مكتبة البلدية في شارع (زايل) ويقرأ الكتب. 'هناك كتب انكليزية تكفيني لو عشت عشرين عمرا' ويقرأ بطمأنينة روايات القرن التاسع عشر التي كان يدوخ إعجابا بها، وشعراء الرومانتيكية الانكليزية، وكتب حول تاريخ الهندسة، وأدلة المتاحف وكل ما يحب مثل طفل يعرف بأن الموت بعيد جدا. يقلب الصفحات في مكتبة البلدية، وينظر إلي الموسوعات القديمة، ويتوقف عند الصفحات ذات الصور، ويعيد قراءة روايات تورغينيف وفي هذه الأثناء علي الرغم من سماعه ضجيج المدينة كان كا يسمع صمت القطارات في داخله. مساء، يغير طريقه، وبينما يتقدم علي طول نهر (ماين) مارا من أمام المتحف اليهودي، وحين يعبر المدينة من طرفها هذا إلي طرفها ذاك في نهاية الأسبوع كان يسمع الصمت نفسه.
قال كا: 'بعد فترة شغل ذلك الصمت مكانا واسعا في حياتي إلي حد أنني لم أعد أسمع ذلك الضجيج المقلق حينما أرتعش من أجل كتابة قصيدة. ولم أكن أحادث الألمان أبدا. كما لم تعد علاقتي جيدة بالاتراك الذين يعتبرونني مثقفا سخيفا وشبه مجنون. لم أكن ألتقي أحدا، أو أكلم أحدا، أو أكتب الشعر أيضا'.
'ولكن الجريدة تقول بأنك ستلقي أخر قصيدة لك هذا المساء.'.
'ليس لدي قصيدة أخيرة لألقيها'.
لايوجد غيرهما في محل المعجنات سوي شاب ضئيل، وآخر متوسط العمر نحيل متعب يعمل صابرا علي شرح أشياء ما له، يجلسان في زاوية معتمة بعيدة في الطرف الآخر من محل المعجنات بجانب النافذة. في النافذة الضخمة التي خلفها يبدو الثلج نادفا قطعا كبيرة وقد سقط عليه ضوء النيون الزهري المنبعث من اسم المحل وهذا ما يجعل الرجلين الجالسين بعيدا والمنجرفين في حديث مكثف جزءا من فلم أسود وأبيض رديء.
قالت
قالت إيبك: 'أختي الصغري قديفة لم تنجح أول سنة في امتحانات الدخول إلي الجامعة. في السنة الثانية استطاعت النجاح بالدخول إلي معهد المعلمين هنا. الجالس هناك ورائي النحيل في الطرف البعيد هو مدير المعهد. عندما بقيت أختي وحيدة بعد موت أمي بحادث سير، قرر أبي أن يجلبها إلي هنا لحبه الشديد لها. بعد أن أتي أبي إلي هنا قبل ثلاث سنوات انفصلتج عن مختار، وسكنا معا بناء فندقنا الذي تجسمع فيه تنهيدات الموتي، وتعج فيه الأشباح شراكة مع أقربائنا. نحن نعيش في ثلاث من غرفه.
لم يحدث أي تقارب بين كا وإيبك في سنوات الجامعة والمنظمة اليسارية. حين بدأ كا يسير في ممرات كلية الآداب المرتفعة السقوف وهو في السابعة عشرة من عمره انتبه مثل كثير غيره إلي إيبك بفضل جمالها. في السنة التالية رآها زوجة لصديقه من المنظمة نفسها الشاعر مختار: كلاهما كان قارصيا.
قالت إيبك: 'أخذ مختار من أبيه وكالة بيع شركتي (آي غاز) و (أرتشلك). وفي السنوات التي تلت عودتنا إلي هنا بدأ يأخذني إلي الأطباء في أرضروم واسطنبول لأننا لم ننجب. وانفصلنا لهذا السبب. ولكن مختارا منح نفسه للدٌين بدل أن يتزوج مجددا.
قال كا: 'لماذا كل شخص يمنح نفسه للدين؟'.
لم تجب إيبك. نظرا فترة إلي التلفاز الأبيض والأسود والمعلق علي الجدار.
قال كا: 'لماذا ينتحر الجميع في هذه المدينة؟'.
قالت إيبك: 'ليس الجميع.تنتحر الفتيات والنساء الشابات فقط. الرجال يمنحون أنفسهم للدين، والنساء ينتحرن'.
'لماذا؟'
رمقته إيبك بنظرات أشعرت كا بأن بحثه السريع عن جواب لسؤاله يحمل فظاظة.
سكت قليلا.
قال كا: 'عليٌ أن التقي مختارا من أجل تحقيق الانتخابات الصحفي'.
نهضت إيبك فورا، وذهبت إلي جانب صندوق المحاسبة، وتحدثت بالهاتف وحين عادت قالت وهي تجلس: 'إنه حتي الخامسة في مركز المحافظة للحزب. إنه ينتظرك'.
حين خيٌم الصمت، سيطر علي كا الارتباك. لولا أن الطرق مغلقة لسافر في أول حافلة هاربا من هنا.
شعر بألم عميق لأمسيات مدينة قارص وأناسها المنسيين. التفتت عيناه تلقائيا نحو الثلج. كلاهما تفرج علي الثلج مدة طويلة، وعمل هذا كمن لديه وقت لهذا وغير مبال بالحياة. كان يشعر كا بنفسه مأزوما جدا.
سألت إيبك: 'هل أتيتم إلي هنا حقيقة من أجل مقالة الانتخابات والانتحارات؟'
قال كا: 'لا. علمت بأنك انفصلت عن مختار في اسطنبول. جئت إلي هنا لأتزوج منك'.
للحظة ضحكت إيبك، وكأن هذه أغنية ممتعة، ولكن قبل مرور وقت طويل امتقع وجهها بالاحمرار. بعد صمت طويل، شعر بأن عيني إيبك تريان كل شيء علي حقيقته. كانت عينا إيبك تقول: 'ليس لديك الصبر حتي علي إخفاء هذا قليلا، وتقترب مني وتربكني بظرافة. لقد أتيت إلي هنا ليس لأنك تحبني، أو أنك تفكر بي بشكل خاص بل لأنك علمت بطلاقي، وتذكرت جمالي، ولأنك تري أن عيشي في قارص نقطة ضعف لدي'.
خجل كا وهو عازم علي معاقبة إرادة السعادة الوقحة، وفكر بأن إيبك فكرت بأمر مؤلم لكليهما: 'يجب أن تكون فكرت بأن الشيء الذي يربطنا يجب أن يكون ما نتوقعه من الحياة'. ولكن إيبك قالت شيئا مغايرا تماما لما تخيله.
قالت: 'أنا آمنت دائما بأنك ستكون شاعرا جيدا، أبارك لك كتبك'.
علي جدران المكان هنا، كما في المقاهي والمطاعم وصالات الفنادق لم تعلق صور جبال قارص التي يفخر بها القارصيون، بل تعلق مناظر جبال الألب في سويسرة. النادل العجوز الذي جلب إليهما الشاي قبل قليل يجلس وسط الصواني المليئة بالمعمول والشكولا المتلامعة وسط الأوراق الدهنية والبراقة المتلامعة تحت ضوء المصباح الشاحب بجانب الخزنة وجهه باتجاههما، وظهره نحو الطاولات الخلفية ويتابع التلفاز الأسود والأبيض المعلق علي الجدار سعيدا. كالمستعد لرؤية كل شيء عدا عيني إيبك ركز علي الفيلم المعروض في التلفاز. في الفيلم ممثلة تركية شقراء ترتدي (مايو) وتهرب علي الشاطئ الرملي، وثمة رجلان بشاربين يهرعان خلفها. فجأة نهض الرجل الضئيل الجالس وراء الطاولة المظلمة في طرف محل المعجنات، ووجه مسدسه الذي بيده نحو مدير المعهد، وبدأ يقول مالم يستطع كا سماعه.
أدرك كا بأن السلاح قد انطلق حين كان المدير يجيبه. وفهم هذا ليس من صوت السلاح الذي لم يتأكد من سماعه له، بل فهمه علي الأغلب من الاهتزاز الشديد لجسد المدير نتيجة انغراز الرصاصة فيه، ومن سقوطه عن الكرسي.
إيبك أيضا التفت، وهي الآن تتفرج علي المشهد الذي رآه كا للتو. نهض الرجل الضئيل من مكانه واتجه نحو المدير الساقط علي الأرض، ووجه إليه سلاحه. كان يقول المدير له بعض الأشياء أيضا. لأن صوت التلفاز مفتوح لايفهم ما يقوله المدير. وبعد أن أطلق الرجل الضئيل ثلاث رصاصات إلي جسد المدير في لحظة واحدة خرج من باب خلفه واختفي.
قالت إيبك: 'لنخرج. علينا ألا ننتظر هنا'.
صرخ كا بصوت ضعيف: 'ألحقوا!' بعد ذلك قال: 'لنتصل بالشرطة'. ولكنه لم يتحرك من مكانه. بعد ذلك هرع راكضا خلف إيبك. لم يكن ثمة أحد عند باب محل الحياة الجديدة للمعجنات ذي المصراعين، كما أنه ليس ثمة أحد أيضا علي الدرج الذي نزلاه مسرعين.
فجأة وجدا نفسيهما علي الرصيف المثلج، وبدأا المسير مسرعين. وكان كا يعتقد بأن أحدا لم يرهما خارجين من هناك، وهذا يريحه، لأنه يشعر كأنه هو الذي ارتكب الجريمة. وكأنه قد نال عقابا يستحقه لطلبه بلسانه الزواج وشعر بالخجل والندم عليه. لم يكن يريد أن يقابل أحدا وجها لوجه.
عندما وصلا إليزاوية شارع كاظم قرة بكر كان كا خائفا من أشياء كثيرة، ولكنه شعر بسعادة نتيجة التقارب الصامت المتولد بينه وبين إيبك لاشتراكهما بسرٌ. ارتبك كا حين رأي في عينيه دموعا في مرآة دكان الحلاق التي تعكس ضوء المصباح العاري الذي ينير صناديق البرتقال والتفاح عند باب خان خليل باشا.
قالت: 'مدير المعهد لم يكن يدخل الفتيات ذوات الإشاربات إلي الدروس، لهذا السبب قتلوا الرجل المسكين'.
قال كا: 'لنبلغ الشرطة' وتذكر أن هذه الجملة في زمن ما كان اليساريون يكرهونها.
'كيفما كان سيفهمون كل شيء. ولعلهم من الآن يعرفون كل شيء. مركز المحافظة لحزب الرفاه هناك في الأعلي، في الطابق الثاني' وأشارت إيبك إلي مدخل الخان. 'احك ما رأيته لمختار لكي لايرتبك حين تفاجئه تشكيلات المخابرات القومية. غير هذا، عليٌ أن أقول لك: مختار يريد أن يتزوجني من جديد، لاتنس هذا في أثناء حديثك معه
- 5 -
أستاذي، هل أستطيع أن أسألك سؤالا؟
الحديث الأول والأخير بين القاتل والمقتول
كان ثمة جهاز تسجيل صوت سري مربوط بلاصق عريض إلي جسم مدير المعهد الذي أطلق عليه النار في صدره ورأسه الرجل الضئيل في محل الحياة الجديدة للمعجنات تحت أنظار كا وإيبك. لقد وّضّعّ الجهاز المستورد ماركة غرونديغ علي جذع مدير المعهد العناصر النبيهون لشعبة تشكيلات المخابرات القومية في قارص. وقد فرضت هذا التصرف تهديدات شخصية تلقاها المدير لعدم إدخاله الفتيات ذوات الإشاربات إلي المعهد والدروس من جهة، والمعلومات التي حصلت عليها المخابرات المدنية في قارص من الأوساط الدينية، ولكن المدير المؤمن بالقدر كمتدين علي الرغم من علمانيته رأي أنه من الأفضل أن يسجل صوت الأشخاص الذين يهددونه ليلقي القبض عليهم فيما بعد أفضل من وجود حارس مثل الدب يلازمه. وفي محل الحياة الجديدة للمعجنات الذي دخله دون تخطيط مسبق لتناول المعمول بالجوز الذي يحبه كثيرا، حين رأي رجلا غريبا يقترب منه شغٌل جهاز التسجيل كما يفعل في ظروف كهذه. وحصلتج علي تفريغ الشريط المخرج من جهاز التسجيل الذي لم ينقذه، ولم يتضرر الشريط علي الرغم من إصابته برصاصتين من أرملته التي بقيت عيناها دامعتين حتي بعد سنوات ومن ابنته عارضة الأزياء الشهيرة.
'مرحبا يا أستاذي، هل عرفتموني؟' /'لا، لم أستطع'/ 'وأنا أيضا أعتقد هذا يا أستاذي. لأننا لم نتعارف. حاولت مساء البارحة واليوم مقابلتكم ولكنني لم أستطع. البارحة طردتني الشرطة عند باب المعهد. وإذا كنت قد نجحت اليوم بالدخول فإن سكرتيرتكم لم تسمح لي بمقابلتكم. وأنا أردت اعتراضكم عند الباب قبل الدخول إلي الصف. في تلك الأثناء رأيتموني. هل تتذكرون يا أستاذي؟' /'لم أستطع التذكر'/ 'لا تتذكرون أنكم رأيتموني أم لم تتذكروني؟' /'ماذا كنتم تريدون أن تبحثوا معي؟'/ 'في الحقيقة أريد أن أبحث معكم كل المواضيع علي مدي ساعات وأيام. أنتم إنسان محترم، متعلم، مثقف، بروفيسور في الزراعة. أما نحن فمع الأسف لم نستطع الدراسة. ولكنني في موضوع معين قرأت كثيرا. وهذا هو الموضوع الذي أردت بحثه معكم. أستاذي، عفوكم، أنا لا آخذ وقتكم، أليس كذلك؟' /'استغفر الله'/ 'عفوا، عن إذنكم، هل أستطيع الجلوس يا أستاذي، لأنه موضوع متشعب'/ 'تفضلوا، أرجوكم' (صوت سحب الكرسي والجلوس) /'إنكم تتناولون المعمول بالجوز يا أستاذي. لدينا في طوقاط أشجار جوز ضخمة. هل ذهبتم إلي طوقاط؟' /'مع الأسف، لا.'/ 'حزنت كثيرا يا أستاذي. إذا جئتم أرجو أن تنزلوا عندي. لقد قضيت عمري كله، سنواتي الست والثلاثين أمضيتها في طوقاط. طوقاط جميلة جدا. وتركيا أيضا جميلة جدا. (فترة صمت) ولكن مع الأسف نحن لا نعرف بلدنا، ولا نحب إنساننا. حتي إننا نعد احترام هذا البلد وهذا الشعب وخيانته شطارة. أستاذي عفوكم، هل يمكنني أن أطرح عليكم سؤالا. أنتم غير ملحدين أليس كذلك؟' /'لست ملحدا.'/ 'يقولون عنكم هذا، ولكنني لا أضع أي احتمال لأن يكون شخص مثلكم متعلم يمكنه أن ينكر وجود الله حاشاه . لا ضرورة لقول هذا، ولكنكم لستم يهوديا، أليس كذلك؟' /'لست يهوديا'/ 'أنتم مسلمون؟' /'مسلم والحمد لله'/ 'إنكم تضحكون يا أستاذي، ولكن أجيبوني بشكل جدي إذن عن سؤالي هذا. لأنني من أجل أن أحصل علي جواب منكم عن هذا السؤال أتيت إلي هنا من طوقاط في هذا الثلج والشتاء' /'كيف سمعتم بي في طوقاط؟'/ 'جرائد اسطنبول لا تكتب أنكم لم تدخلوا فتياتنا المتسترات المرتبطات بدينهن وكتابهن إلي الدروس هنا في قارص، إنها مشغولة بسفالات الفتيات عارضات الأزياء في اسطنبول. ولكن لدينا في طوقاط إذاعة إسلامية تدعي (بيرق)، وهي تذيع أخبار الأمكنة التي يظلم فيها المؤمنون في بلدنا' /'أنا لا أظلم المؤمنين، لأنني أخاف الله.'/ 'يا أستاذي، أنا علي الطرقات في الثلج والعواصف علي مدي يومين. فكرت بكم في الحافلات دائما، صدقوا أنني كنت أعرف بأنكم ستقولون: أنا أخاف الله. وتخيلت أنني عندئذ سأسألكم هذا السؤال: إذا كنتم يا حضرة البروفيسور نوري يلماظ تخافون الله، وإذا كنتم يا أستاذي تؤمنون بأن القرآن كلام الله، إذن قل لي ما رأيك بالآية الكريمة الجميلة الحادية والثلاثين من سورة النور.' /'نعم، هذه الآية تبين بشكل واضح بأن علي النساء أن يغطين رؤوسهن حتي يخفين وجوههن.'/ 'جميل جدا، لقد قلتم هذا بصدق، تسلم يا أستاذي! في هذه الحالة هل أستطيع أن أطرح هذا السؤال: كيف توفق
--------------------------------------------------------------------------------
بين أمر الله هذا، وعدم إدخال فتياتنا المحجبات إلي المعهد؟'/ 'عدم إدخال الفتيات المغطيات الرأس إلي الدروس، وحتي إلي المعهد أمر دولتنا العلمانية.'/ 'أستاذي، عفوكم، هل يمكنني أن أطرح هذا السؤال: هل أمر الدولة أكبر من أمر الله يا أستاذي؟'/ 'سؤال جميل. ولكن هذه أمور منفصلة في دولة علمانية'/ 'تكلمتم بشكل صحيح يا أستاذي، لأقبل يدكم يا أستاذي. لا تخافوا يا أستاذي، هاتوها، هاتوها، انظروا! سأقبلها بشغف. أوف الله يرضي عنكم. فهمتم مقدار احترامي لكم. والآن لطفا، هل يمكنني أن أطرح سؤالا؟' /'تفضلوا، رجاء!'/ 'أستاذي، حسن، هل العلمانية تعني الإلحاد؟' /'لا.'/ 'في هذه الحالة لماذا لا تدخل فتياتنا المؤمنات المؤديات واجباتهن الدينية إلي الدروس بذريعة العلمانية؟'/ 'والله يا بني، لا يمكن الوصول إلي نتيجة بمناقشة هذه الأمور. تناقش هذه الأمور في تلفزيونات اسطنبول طوال اليوم، ماذا يحدث؟ لا الفتيات ينزعن أغطية رؤوسهن، ولا الدولة تقبلهن بحالتهن هذه في الدروس.'/ 'حسن أستاذي، هل يمكنني طرح سؤال؟ تفضلوا عليٌ! بالعفو سلب حق التعليم لفتياتنا المغطيات رؤوسهن، بناتنا المربيات بألف جهد وجهد، المجتهدات، المربيات، المطيعات هل يتوافق مع الدستور، وحرية التربية والعقيدة؟ هل يقبل هذا ضميركم، لطفا قولوا لي يا أستاذي؟'/ 'لو كانت تلك الفتيات مطيعات إلي هذا الحد فيكشفن عن رؤوسهن. ابني، ما اسمك، عنوانك، أين تعمل؟'/ 'أستاذي، أنا أعمل علي الموقد في مقهي (شنلر) المجاور تماما لحمام (بروانة) المشهور في طوقاط. هناك أنا مسؤول عن الموقد وعن أباريق خمير الشاي. اسمي غير مهم. أستمعج إلي إذاعة (بيرق) طوال اليوم. أحيانا يشغل بالي ظلم لحق بالمؤمنين، ويا أستاذي ولأنني أعيش في دولة ديمقراطية، وإنسان حر يعيش علي هواه، أركب الحافلة قاصدا الشخص الذي شغل عقلي حيثما كان في تركيا، وأسأله مباشرة وجها لوجه عن هذا الظلم. لهذا السبب لطفا أجيبوا عن سؤالي هذا يا أستاذي. هل أمر الدولة أكبر من أمر الله؟' /'لا يمكن الوصول إلي نتيجة في هذا النقاش يا ابني. في أي فندق تنزل؟'/ 'هل ستبلغون عني الشرطة؟ لا تخف مني يا أستاذي. أنا لست منتسبا إلي أي منظمة دينية. وأكره الإرهاب، وأؤمن بالجدل الفكري وحب الله. لهذا السبب علي الرغم من أنني عصبي جدا لم أوجه إلي أحد ولو لكشة في نهاية الجدل الفكري. لهذا أريدك أن تقدم لي جوابا علي سؤالي هذا. أستاذي، عفوكم، علي الرغم من البيان الواضح في سورتي الأحزاب والنور من القرآن الكريم كلام الله ألا يعذبكم ضميركم نتيجة معاناة الفتيات اللواتي تظلموهن علي أبواب الجامعات؟' /'يا بني، القرآن الكريم أيضا يأمر بقطع يد السارق، ولكن دولتنا لا تقطعها، لماذا لا تعارض هذا؟'/ 'جواب جميل جدا يا أستاذي. لأقبل يدك. ولكن هل ذراع السارق وشرف المرأة أمر واحد؟ بحسب الإحصاءات التي قام بها الأمريكي الزنجي المسلم البروفيسور (مارتن لوتر كينغ) فإن حوادث الاغتصاب في الدولة الإسلامية حيث النساء متسترات تنخفض نسبتها حتي تكاد تنتهي، أما حوادث التحرش فتكاد لا تصادف. لأن المرأة المتسترة وسط ملحفة، كأنها بواسطة ثيابها تقول للرجال: لطفا لا تتحرشوا بي. أستاذي، لطفا، هل يمكنني أن أطرح سؤالا: أتريدون إيقاع أنفسكم تفضلوا بالعفو موقع القواد؟' بدفعكم النساء المغطيات الرأس خارج المجتمع بمنعهن من التعليم، وبكشف الرأس وجعل الشعر تاجة وتحقيق ثورة جنسية كما جري في أوروبا، وجعل شرف المرأة رخيصا /'ابني، أنا تناولت المعمول، لا تؤاخذني، أنا ذاهب'/ 'اجلس مكانك يا أستاذي. أجلس ولا تجعلني استخدم هذا. يا أستاذي، هل تراه؟'/ 'مسدس؟' / 'نعم يا أستاذي، لا تؤاخذني، أنا قطعت كل هذه الطرق من أجلكم. لست مخبولا. فكرت بأنه يمكن لكم ألا تستمعون إليٌ، فاتخذت تدبيري.' / 'ابني، ما اسمكم؟' / 'وحيد سوزمة، سالم فشمكان، ما أهمية هذا يا أستاذي. أنا بطل مجهول مدافع لا اسم له عن المكافحين من أجل إيمانهم والمعرضين للظلم في هذه الدولة العلمانية المادية. لست منتسبا إلي أية منظمة. أحترم حقوق الإنسان، ولا أحب العنف أبدا. لهذا السبب أضع مسدسي في جيبي، ولا أريد منكم سوي الإجابة عن سؤالي.' / 'حسن.' / 'أستاذي، بداية إثر أمر صدر عن أنقرة اعتبرتم الفتيات المستغرقة تربيتهن سنواتي طويلة، وهن أحداق عيون آبائهن وأمهاتهن، الذكيات، المجتهدات، والأوائل في صفوفهن غير موجودات، وعاملتموهن علي هذا الأساس. إذا كتبت اسمها في جدول التفقد محوتموه لأنها مغطاة الرأس. إذا كان هنالك سبع فتيات إحداهن مغطاة الرأس يجلسن مع أستاذهن فتجعتبر أن المتسترة غير موجودة، ويجطلب لهن ستة أقداح من الشاي. أبكيتم الفتيات المعتبرات غير موجودات. وهذا لم يكف. بأمر جديد قادم من أنقرة لم تدخلوهن إلي الصفوف بداية، ورميتموهن إلي الممرات، بعد ذلك رميتموهن من الممرات خارج الأبواب. عندما وقفت بضع الفتيات البطلات الصامدات غير الكاشفات رؤوسهن أمام المعهد وهن يرتجفن من البرد من أجل التعبير عن همهن، اتصلتم هاتفيا طالبين الشرطة.' / 'نحن لم نطلب الشرطة.' / 'أستاذي، لا تخف لأن في جيبي مسدسا فتكذب عليٌ. بأي ضمير استطعتم النوم مساء اليوم الذي جرجرت فيه الشرطة الفتيات للتوقيف. هذا هو سؤالي.' / 'طبعا إن غطاء الرأس هو رمز، وجعله لعبة سياسية أحزن بناتنا أكثر.' / 'أية لعبة هذه يا أستاذي؟ إحدي الفتيات اضطرت للاختيار بين دراستها وشرفها فسيطر عليها القلق، ومع الأسف انتحرت. هل هذه لعبة؟' / 'يا ابني! أنت غاضب جدا، ولكن لم يخطر ببالك أن وصول قضية الإشارب إلي هذه الحالة السياسية يكمن وراءها قوي خارجية تريد إضعاف تركيا بتقسيمها إلي قسمين؟' / 'لو أنك أدخلت الفتيات إلي المعهد هل كان سيبقي هنالك ما يدعي فتاة إشارب!' / 'وهل هذا بإرادتي وحدي يا بني؟ هذه مطالب أنقرة. زوجتي أيضا مغطاة.' / 'أستاذي دع عنك المداهنة وأجب عن سؤالي الذي طرحته قبل قليل.' / 'أي سؤال؟' / 'هل يعذبكم ضميركم؟' / 'أنا أب أيضا يا بني، طبعا أنا أحزن من أجل تلك الفتيات.' / 'اسمع، أنا أعرف جيدا كيف أسيطر علي نفسي، ولكنني رجل عصبي. إذا نفر الدم إلي رأسي سينقطع الفيلم. حين كنت في السجن ضربت رجلا لأنه لم يغط فمه وهو يتثاءب، وربيت المهجع كله، وتخلصوا جميعهم من العادات السيئة، وبدؤوا بالصلاة. والآن لا تّتّلّوٌّ، وأجب عن سؤالي. أنا ماذا قلتج قبل قليل؟' / 'ماذا قلت يا ابني، انزل هذا المسدس.' / 'أنا لم أسألك عما إذا كان لديك ابنة، وعما إذا كنت قد حزنت.' / 'عفوكم يا ابني، ماذا سألتم؟' / 'لا تخف من المسدس وتداهنني الآن. تذكر ما سألتك إياه...' (صمت) / 'ماذا سألتم؟' / 'سألتك عما إذا كان ضميرك يعذبك يا عديم الإيمان' / 'طبعا يعذبني.'/ 'إذن لماذا تفعل هذا يا عديم الشرف' / 'يا بني، أنا معلم بعمر والدك. وهل يوجد في القرآن الكريم أمر يقول وجهوا المسدس إلي كباركم وأهينوهم؟' / أنت لا تذكر القرآن الكريم، فهمت. ثم لا تتلفت هكذا إلي يمينك ويسارك كأنك تتسول مساعدة، وإذا صرخت فلن أرحمك، وسأطلق النار عليك. هل فهمت الآن؟' / 'فهمت' / 'إذن، أجب عن سؤالي هذا: ماذا يستفيد البلد إذا كشفت الفتيات المغطيات رؤوسهن. قل سببا يقبله قلبك وضميرك. قل مثلا إنهن إذا كشفن رؤوسهن ستضعنا أوربا موضع الإنسان أكثر من السابق. علي الأقل سأفهم قصدك، ولن أطلق النار عليك، وسأطلقك.' / 'يا سيد، يا ابني. لدي ابنة، ورأسها مكشوف. وبالشكل الذي لا أتدخل فيه مع أمها المغطاة الرأس، لا أتدخل بشأنها أبدا.' / 'لماذا كشفت ابنتك رأسها، هل تريد أن تصبح فنانة؟' / 'لم تقل لي شيئا كهذا. إنها تدرس العلاقات العامة في أنقرة. ومع الأسف صرت بسبب قضية الإشارب هذه هدفا، وحين عانيت من الضيق، وتعرضت للافتراءات والتهديد، وندا لأصحاب الحق الغاضبين مثلك، ولأعدائي قدمت لي ابنتي الدعم الكبير. اتصلت بي من أنقرة....' / 'تقول أرجوك يا بابا تماسك، هل أصير فنانة؟' / 'لا يا بني، لا تقل هذا. تقول يا بابا أنا لا أجرؤ علي الدخول إلي صف كل بناته مغطيات الرأس، في هذه الحالة سأتغطي حتي لو لم أكن أرغب بهذا.' / 'حسن، بماذا يضر لو تغطت دون إرادة؟' / 'والله أنا لا أناقش هذه الأمور. طلبتم مني تقديم سبب' / 'أي أنك يا عديم الشرف تجعل الشرطة تضرب الفتيات المتسترات، الملبيات لأمر الله، والمؤمنات بالهراوات، وتظلمهن، وتدفعهن إلي الانتحار من أجل خاطر ابنتك.' / 'السبب الذي طرحته ابنتي هو في الوقت نفسه سبب لكثير جدا من النساء التركيات.' /'إذا غطت تسعون بالمائة من نساء تركيا رؤوسهن، فأي سبب هذا سيزعج؟ إنك تفاخر بتعرية ابنتك. يا عديم الشرف، يا ظالم، ضع هذا في رأسك، أنا لستج بروفيسورا، ولكنني قرأت أكثر منك بكثير في هذا الموضوع' / 'يا سيد، لطفا لا توجهوا سلاحكم نحوي. أعصابكم تتوتر، إذا أطلق لعلكم فيما بعد ستحزنون.' / 'لماذا سأحزن. أنا أصلا قطعت كل هذه الطرق في هذه الثلوج والقيامة علي مدي يومين من أجل تنظيف الدنيا من كافر. يقول القرآن الكريم بأنه واجب علي المؤمن قتل الظالم ومن يقدم علي الظلم. ولأنني حزنت عليك سأعطيك فرصة أخيرة. قل لي سببا واحدا يقبله ضميرك لكشف الفتيات المسترات رؤوسهن ونثره. اسمع. أقسم لك بأنني حينئذ لن أطلق النار عليك.' / 'إذا رفعت المرأة غطاء رأسها ستكون داخل المجتمع أكثر راحة، وأكثر احتراما.' / 'لعل هذا ممكن لابنتك التي تريد أن تصير فنانة. ولكن علي العكس فإن التستر حمي المرأة من التحرش والاغتصاب، والاستهانة، وجعلها تستطيع الخروج إلي المجتمع براحة أكبر. وقد عبرت كثير من النساء اللواتي تغطين فيما بعد وبينهن راقصة هزٌ البطن السابقة (ملاحات شاندرا) بأن الغطاء يجخرج المرأة من كونها أداة مسكينة مزينة تخاطب المشاعر الحيوانية للرجال، وتنافس النساء الأخريات في الجاذبية. وكما عبر البروفيسور الزنجي الأمريكي مارتن كينغ، لو كانت إليزابث تايلر قد تغطت في العشرين سنة الأخيرة من حياتها لما خجلت من بدانتها ووقعت في مشافي المجانين، وكانت ستغدو سعيدة. عفوكم يا أستاذي، أيمكنني أن أطرح سؤالا: لماذا تضحك؟ / يا بني المحترم! صدقوا أنني لا أضحك. وإذا كنت قد ضحكت فمن توتر الأعصاب.' / 'لا. ضحكت عن إيمان' / 'يا سيد بني، قلبي مليء بالشفقة علي الشابات المعذبات لإيمانهن بقضيتهن مثلي مثلك ومثل الفتيات ذوات الإشاربات.' / 'لا تداهن دون جدوي. أنا لا أعاني من أي ألم، ولكنك الآن ستعاني لأنك ضحكت علي الفتيات المنتحرات. بما أنك ضحكت فإنك لن تندم. في هذه الحالة لأعلمك بالوضع فورا. لقد حكمت عليك عدالة المجاهدين الإسلامية منذ زمن بالموت، واتخذ القرار في طوقاط نتيجة التصويت بالإجماع، وأرسلوني للتنفيذ. لو أنك لم تضحك، لو أنك نادم لعلني. كنت سأعفو عنك. خذ هذه الورقة، واقرأ قرار إعدامك ... (صمت) اقرأه بصوت عال دون بكاء مثل النساء، هيا يا عديم الشرف، وإلا سأطلق النار عليك فورا' / 'أنا الملحد البروفيسور نوري يلماظ، يا بني المحترم، أنا لست ملحدا..' / 'هيا، اقرأ' / 'يا بني، عندما سأقرأ هل ستطلق النار عليٌ؟' / 'إذا لم تقرأ سأطلق النار عليك. هيا، اقرأ' / لقد ظلمت لكوني أداة لمخطط غربي سري لجعل الجمهورية التركية العلمانية خادمة للغرب وتجريدها من كرامتها، وجعلها ملحدة، وطبقت هذا الظلم علي الفتيات المؤمنات المتعلقات بدينهن لأنهن لم يكشفن عن رؤوسهن، ولم يخرجن عن كلام القرآن الكريم، وفي النهاية لم تستطع إحدي الفتيات المؤمنات تحمل الألم فانتحرت ... يا بني المحترم، عن إذنكم لدي اعتراض هنا، وابلغوا الهيئة التي أرسلتكم بهذا رجاء. تلك الفتاة لم تنتحر لعدم السماح لها بالدخول إلي المعهد أو لضغط أبيها، وبحسب ما أبلغتنا به تشكيلات المخابرات القومية فقد شنقت نفسها نتيجة ألم العشق.' / 'ولكنها لم تذكر هذا في الرسالة التي تركتها قبيل أن تموت.' / 'وحتي ألجأ إلي عفوكم لأقول يا بني لطفا أنزلوا هذا المسدس إن تلك الفتاة الجاهلة فقدت بكارتها قبل أن تتزوج مع شرطي يكبرها بخمسة وعشرين عاما دون تفكير، وبعد هذا حين قال لها الرجل بأنه لا يستطيع الزواج منها لأنه متزوج، ولا ينوي الزواج منها نهائيا ... ' / 'اسكت يا سافل. ذاك العمل يمكن أن تعمله ابنتك العاهرة.' / 'لا تعملها يا بني! لا تعملها يا صغيري. إذا أطلقت عليٌ النار سيسود مستقبلك أنت أيضا.' / 'قل بأنك نادم.' / 'أنا نادم يا ابني، لا تطلق النار.' / 'افتح فمك لأدخل فوهة المسدس ... والآن اضغط علي الزناد من فوق إصبعي كأي عديم إيمان، ولكن علي الأقل ستفطس بشرف.' (صمت) / يا ابني، انظر إلي أي حالة سقطت، بهذا العمر أبكي. أتوسل إليك، لا تشفق عليٌ، أشفق علي نفسك. أنت أيضا يا للأسف علي شبابك ستصير قاتلا.' / 'في هذه الحالة اضغط أنت علي الزناد، واعلم أنت أيضا بالألم الناجم عن الانتحار' / 'يا ابني، أنا مسلم وضد الانتحار!' / 'افتح فمك. (صمت) لا تبك ... ألم يخطر ببالك أنك في يوم من الأيام ستحاسب. لا تبك وإلا سأطلق عليك النار' / (صوت النادل العجوز من بعيد) 'يا سيدي، هل تريدون أن أجلب لكم الشاي إلي تلك الطاولة؟' / 'لا، لا أريد. سأنهض الآن' / 'لا تنظر إلي النادل! تابع قراءة قرار إعدامك' / 'يا بني، اعفج عني'/ أقول لك: اقرأ.' / 'أنا خجل مما فعلته كله، ولكي يعفو عني الله جل جلاله..' / 'هيا اقرأ. .' / 'يا بني المحترم، دع هذا العجوز يبكي. دعني أفكر للمرة الأخيرة بزوجتي وابنتي.' / 'فكر بالفتيات اللواتي ظلمتهن. إحداهن أصيبت بنوبة عصبية. أربع منهن طردن من المعهد وهن في الصف الثالث. إحداهن انتحرت. ونتيجة ارتجافهن من البرد عند باب المعهد أصبن جميعهن بالحمي، وسقطن في الفرش، وانحرفت حياتهن جميعا.' / 'أنا نادم جدا يا بني المحترم. ولكن هل يستاهل هذا الأمر قتل واحد مثلي لتتحول إلي قاتل. فكر بهذا.' / 'حسن' (صمت) 'أنا فكرت يا أستاذي، اسمعوا ما خطر ببالي' / 'ماذا؟' / ' أنا من أجل إيجادك وتنفيذ عقوبتك قضيت يومين في مدينة قارص البائسة هذه أتجول خاوي اليدين. واعتقادا بأن النصيب لم يقسم لي، قطعت تذكرة العودة إلي طوقاط، وبينما كنت أشرب آخر قدح من الشاي ...' / 'يا بني إذا كنت تفكر بإطلاق النار عليٌ والهرب بآخر حافلة ذاهبة إلي طوقاط، فإن الطرق مغلقة بالثلوج. حافلة الساعة السادسة لن تنطلق. بعد ذلك لا تندم.' / 'لحظة عودتي أرسلك الله إلي محل الحياة الجديدة للمعجنات هذا. أي أن الله لا يعفو عنك، فهل أنا سأعفو عنك؟ قل كلمتك الأخيرة. وكبٌر.' / 'اجلس علي كرسيك يا بني. هذه الدولة ستقبض عليكم جميعا، وتشنقكم.' / 'كبٌر' / 'اهدأ يا بني. اجلس. فكر مرة أخري. لا تضغط عليه، قف.'
(صوت سلاح. قرقعة كرسي) 'لا تفعلها يا بني!' (صوت طلقتين أخريين. صمت. أنين. صوت التلفاز. سلاح من جديد. صمت.)
- 6 -
العشق والدين والشعر حكاية مختار الحزينة
حين تركته إيبك عند باب خان خليل باشا وعادت إلي الفندق صعد درج الطابقين مسرعا، ولم يذهب إلي مركز المحافظة لحزب الرفاه، وقضي وقتا بين العاطلين عن العمل والأجراء وبين السيقان في ممر الخان. مازالت صورة مدير المعهد المضروب بالنار وهو ينازع الروح حية أمام عينيه، ويشعر بندم وذنب. في داخله إحساس بضرورة أن يحدث أحدا ما بالهاتف، مثلا: معاون مدير الأمن الذي كلمه صباحا، أو اسطنبول إما جريدة الجمهورية أو أحد معارفه، ولكنه لم يستطع إيجاد زاوية يتكلم منها بالهاتف للازدحام في المقاهي ودكاكين الحلاقين.
وهكذا ولج من الباب الذي كتب فوقه علي لوحة 'جمعية محبي الحيوانات'. ثمة هاتف في هذا المكان ولكنه مشغول. ثم إنه لم يعد واثقا إذا ما كان يريد أن يتكلم بالهاتف أم لا. انتقل إلي الطرف الآخر من الجمعية عبر باب موارب حيث هنالك صور ديكة معلقة علي جدران صالة، وفي الوسط حلبة صغيرة. في صالة مصارعة الديكة شعر كا متوجسا بأنه يعشق إيبك وأن البقية الباقية من حياته سترتسم وفق هذا العشق.
أحد محبي الحيوانات الأغنياء التواقين لصراع الديكة في ذلك اليوم وتلك الساعة يذكر جيدا أن كا دخل إلي الجمعية، وجلس علي أحد مقاعد الفرجة حول حلبة وهو يفكر. وهناك شرب كا قدحا من الشاي وقرأ قواعد صراع الديكة المكتوبة بحروف ضخمة علي الجدران.
لا يمكن فحص الديك المجلوب إلي الحلبة من قبل صاحبه.
الديك الملقي أرضا إذا سقط ثلاث مرات وتوقفت حوصلته عن الحركة يخسر نهائيا.
إذا كجسرت إصبعه الخلفية أو ثلاثة أظفار يعطي دقيقة للمعالجة.
الديك الساقط أرضا ينهض ويتابع الصراع إذا وطئ الديك الخصم علي رقبته.
إذا قطعت الكهرباء ينتظر خمس عشرة دقيقة، وإذا لم تأت يلغي الصراع.
في الساعة الثانية والربع حين خرج من جمعية محبي الحيوان كان كا يفكر كيف يمكنه أن يخطف إيبك من مدينة قارص هذه، ويهربان. مركز المحافظة لحزب الرفاه في الطابق نفسه. السيد مظفر رئيس البلدية الأسبق من حزب الشعب علي مبعدة دكانين، والآن يطفئ أنوار مكتبه (بينهما مقهي الأصدقاء وخياطة الأخضر).
الزيارة التي عملها صباحا تهيأت لكا بأنها غدت في زمن ماض بعيد، ودخل إلي مركز الحزب وهو مستغرب أن يكونا في بناء واحد، وطابق واحد.
آخر مرة رأي فيها كا مختارا كانت قبل اثنتي عشرة سنة. وبعد أن تعانقا انتبه إلي أن بطنه كبر، وشعره شاب وتساقط، ولكنه كان يتوقع أنه علي هذا النحو. ليس لمختار أية خصوصية كما كان أيام الجامعة، وفي طرف فمه سيجارة يدخنها منذ تلك الأيام.
قال كا: 'قتلوا مدير معهد المعلمين.'
قال: 'لم يمت. أذيع الخبر الآن. كيف عرفت أنت؟'
قال كا: 'كان جالسا مثلنا في محل الحياة الجديدة للمعجنات حيث اتصلت بك إيبك' وشرح الحادثة كما عاشها.
قال مختار: 'هل اتصلتم بالشرطة؟ ماذا فعلتم بعد ذلك؟'
قال كا بأن إيبك عادت إلي البيت، وهو جاء إلي هنا.
قال مختار: 'بقي للانتخابات خمسة أيام. فهل أننا سنكسب، لذلك تجرب الدولة كل شيء من أجل أن تحيك علي رأسنا ما يعوقنا. سياسة حزبنا علي مستوي تركيا كلها هي تبني قضية أخواتنا ذوات الإشاربات. والآن يطلق النار علي السافل الذي يمنع الفتيات من الدخول إلي المعهد، والشاهد الموجود في مكان الحادث لا يبلغ الشرطة، ويأتي فورا إلي هنا، إلي مركز حزبنا.' وأضاف متلبسا حالة من الظرافة: 'لطفا، اتصل من هنا بالشرطة، واشرح لهم كل شيء.' ومد نحوه سماعة الهاتف كصاحب بيت يباهي بتقديم ضيافة. حين تناول كا السماعة، كان مختار ينظر إلي دفتر ويطلب الرقم.
قال كا: 'أنا أعرف السيد كاظم معاون مدير الأمن.'
وبشك واضح يدفع إلي التوتر العصبي قال: 'من أين تعرفه؟'
وبينما كان كا يقول: 'الصحفي السيد سردار أخذني إليه أولا هذا الصباح' وصلت عاملة المقسم كا في لحظة بمعاون مدير الأمن. شرح كا ما عاشه وشهده في محل الحياة الجديدة للمعجنات كما حصل. طرد مختار رجلين متسرعين أهوجين عجيبين، وبتصرف غير متقن لإبداء الظرافة قرٌب اذنه، وأراد الاستماع إلي المكالمة مع كا. ولكي يسمع جيدا قرب كا السماعة من أذنة. الآن وجه كل منهما يشعر بأنفاس الآخر. كا يعرف السبب الذي جعله يشاركه بالاستماع إلي مكالمة معاون مدير الأمن، ولكنه شعر بأن هذا أفضل. عرٌف معاون مدير الأمن مرتين بجسد المعتدي الضئيل ولم يتكلم عن وجهه الذي لم يره.
قال صوت الضابط الموحي بحسن نية: 'تعالوا إلي هنا بأسرع ما يمكن لكي نأخذ إفادتكم.'
قال كا: 'أنا في مركز حزب الرفاه، سآتي دون تأخير.'
خيمت برهة صمت.
قال الضابط: 'لحظة'
سمع كا ومختار الضابط يهمس مع أحدهم مبعدا فمه عن السماعة.
قال الضابط: 'عدم المؤاخذة، سألت عن السيارة المناوبة. لن يهدأ هذا الثلج. بعد قليل سنرسل سيارة سيأخذونكم من مركز الحزب.'
حين أغلق الهاتف قال مختار: 'حسن قولك بأنك هنا. كيفما كان فهم يعرفون. إنهم يتنصتون علي كل الأمكنة. لا أريد أن تفهمني خطأ بحديثي الذي بدا اتهاميا.'
عبر داخل كا إحساس بالغضب من النوع الذي كان يشعر به إزاء السياسيين الذين كانوا يرونه بورجوازيا من نيشان طاش. وكان أولئك الشبان في الثانوية يتربصون ببعضهم بعضا موقعا كل طرف الآخر موقع المنيوك. وتحولت هذه الفعاليات في السنوات اللاحقة إلي شكل ألاعيب جعل كل طرف عدوه السياسي مخبرا للشرطة. وبسبب خشية كا من الوقوع في وضع المشير من سيارة شرطة إلي البيت الذي سيداهم، ابتعد دائما عن السياسة. أما الآن علي الرغم من قيامه بعمل من هذا النوع سيستهين به مختار المرشح عن حزب شريعة، ولو حدث قبل عشر سنوات لوقع كا في مأزق إيجاد عذر أو ذريعة له.
رن الهاتف، فتحه مختار بلبوس المسؤول، ودخل مساومة شديدة مع مسؤول تلفزيون قارص سرهات حول سعر إعلان دكان بيع الأدوات المنزلية الكهربائية الذي سيبث ضمن النقل الحي هذا المساء.
أغلق الهاتف. كطفلين متخاصمين لا يعرفان ما سيقولانه سكتا. وكل ما لم يتكلما به خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية تم الحديث به في خيال كا.
بداية قال كلٌ منهما للآخر في خياله: 'عاش كل منا الآن نوعا من حياة المنفي، وبما أننا لسنا ناجحين ظافرين سعيدين فإن الحياة أمر صعب! لا يكفي أن يكون المرء شاعرا ... لهذا السبب فقد أثرت علينا ظلال السياسة.' بعد أن قيل هذا مرة، لم يستطيعا دون تجريب قول هذا أيضا: 'حين لم تكف سعادة الشعر، تولدت الحاجة إلي ظل سياسي'. كا الآن يستهين أكثر قليلا بمختار.
كا مسرور لأن مختار علي عتبة انتصار في الانتخابات، وهو ممنون قليلا من نفسه لأنه شاعر متوسط الشهرة أفضل من لا شيء علي صعيد تركيا. ولكن كما أن كلا منهما لن يستطيع الاعتراف بهذا الامتنان، فهما أيضا لا يمكن أن يفتح الواحد للآخر الموضوع الأساسي الكبير، وهو مخاصمة كل واحد منهما للحياة. أي الحدث الأسوأ، وهو قبولهما الهزيمة في الحياة، واعتيادهما علي ظلم العالم الذي لا يرحم. وحاجة كل منهما لإيبك للخروج من هذا الوضع أخاف كا.
قال مختار مبديا ابتسامة غير واضحة تماما: 'بلغني أنك ستقرأ آخر قصيدة لك هذا المساء في سينما المدينة.'
نظر كا بعداء إلي هذا الرجل الذي كان في يوم ما زوجا لإيبك وإلي عينيه الشهلاوين اللتين لا تضحكان أبدا.
قال مختار: 'هل التقيت فاخر في اسطنبول' الابتسامة واضحة هذه المرة.
استطاع كا أن يبتسم معه هذه المرة. كما أن هنالك جانبا حنونا ومحترما في ابتسامتيهما. كان فاخر بعمرهما ومدافعا غير متهاون أبدا عن الشعر الغربي. لقد درس في سانت جوزف، ويجقال إنه بالنقود التي أخذها من أبيه الغني والمجنون والخارج من القصر يذهب كل سنة إلي باريس، ويملأ حقيبته بكتب الشعر التي يشتريها من مكتبات سانت جيرمان، ويجلبها إلي اسطنبول وينشر في المجلة التي يصدرها وفي سلاسل شعرية ترجمات لهذه الكتب، وقصائده، ومجموعات شعرية للشعراء الأتراك الحداثويين عن دار النشر التي يمتلكها وقد أفلسها. ومقابل احترام الجميع لجانبه هذا فإن أشعاره التي يكتبها بتركية أصيلة مصطنعة متأثرا بالشعراء الذين ترجم لهم ينقصها الإلهام وهي سيئة وغير مفهومة.
قال كا بأنه لم يلتق فاخر في اسطنبول.
قال مختار: 'كانت لي رغبة كبيرة لأن يعجب فاخر بشعري. ولكنه كان يستهين بأمثالي معتبرا أننا لا نعمل من أجل الشعر الخالص، بل بالفلكلور والجماليات المحلية. مرت السنون، وحدثت انقلابات عسكرية، وكل شخص دخل إلي السجن وخرج، وأنا أيضا كالجميع تشتت من هنا إلي هناك مثل المصروعين. تغير الناس الذين اتخذتهم مثلا لي، وضاعت الأشياء التي أردت أن يعجب بي أعجب من خلالها، ولم يتحقق ما أردته لا في الشعر ولا في الحياة. وعدت إلي قارص لأن هذا أفضل من البقاء في اسطنبول تعيسا، قلقا، دون نقود. أخذت دكان أبي الذي كنت أخجل منه في زمن ما. وهذا أيضا لم يسعدني. استهنت هنا بالناس، وقطبت وجهي عندما التقيتهم كما كان يفعل فاخر إزاء شعري. كأن المدينة، والناس هنا في قارص ليسوا حقيقيين. كل شخص هنا يريد إما أن يموت أو ينسحب ذاهبا. ولكن بالنسبة لي لم يبق لي مكان أذهب إليه. كأنني نفيت إلي خارج التاريخ، وخارج الحضارة. كانت الحضارة بعيدة إلي حد أنني لم أستطع حتي تقليدها. كما أن الله لم يمنحني ولدا أتخيل أنه عمل ما لم أستطع عمله يكون في يوم ما صاحب شخصية حداثوية غربية دون حمل أي شعور بالانسحاق.'
كان كا مستمتعا بابتسامات مختار الخفيفة التي تنطلق وكأنها ضوء صادر عن داخله ساخرا من ذاته.
'أشرب مساء، وآتي متأخرا إلي البيت كي لا أتشاجر مع جميلتي إيبك. كل شيء كان مثل إحدي ليالي قارص التي يتجمد فيها كل شيء حتي الطيور الطائرة. في وقت متأخر خرجت آخر واحد من خمارة (يشيل يورت)، وكنت ماشيا نحو البيت الذي كنا نسكنه معا إيبك وأنا في شارع (أوردو). لا يستغرق هذا الطريق أكثر من عشر دقائق، ولكنها بالنسبة إلي قارص مسافة طويلة. ولأنني شربت عرقا زيادة ضعت في طريق هو عبارة عن خطوتين. لم يكن ثمة أحد في الشوارع. كانت قارص تشبه مدينة مهجورة كما هي دائما في الليالي الباردة. الأبواب التي طرقتها إما أبواب بيوت أرمن لم يعش فيها أحد منذ ثمانين عاما، أو أن سكانها تحت طبقات اللحف مثل الحيوانات التي في سباتها الشتوي لا تريد الخروج من جحورها.
فجأة أعجبت بهذه المدينة المهجورة بحالتها الخاوية هذه. كان ينتشر في جسدي شعور ممتع بالنوم نتيجة المشروب والبرد. وأنا قررت أن أترك هذه الحياة بصمت، إما مشيت أربع أو خمس خطوات أو لم أمشها، تمددت تحت شجرة علي الرصيف المتجلد وبدأت أنتظر النوم والموت. الموت في ذلك البرد والرأس سكران عمل لا يستغرق أكثر من أربع أو خمس دقائق. وبينما كان ثمة نوم لطيف يتجول في عروقي ظهر أمام عيني ولدي الذي لم يأت بأي شكل. فرحت كثيرا: كان ذكرا، وكبر، ويربط ربطة عنق، حالته لم تكن تشبه موظفينا ذوي ربطات العنق، كان مثل الأوربيين. حين كاد يقول لي شيئا توقف، وقبل يد رجل مسن. كان يشع من ذلك الرجل المسن النور علي كل الأرجاء. فجأة سقط ضوء علي عيني تماما حيث أتمدد، وأيقظني. نهضت واقفا وأنا أشعر بالندم والأمل. نظرت، وإذا علي مقربة مني فتح باب مجضاء، وبعضهم يدخل ويخرج. استمعت إلي الصوت الصادر من داخلي ولحقت بهم. قبلوني بينهم، وأدخلوني إلي بيت مضاء ودافئ. ولم يكن هنالك أناس وجوههم ذاوية قطعوا أملهم بالحياة كالقارصيين، فوق هذا فهم قارصيون، حتي إنني كنت أعرفهم. فهمت أن هذا هو البيت الذي سمعت إشاعات عن أنه تكية سرية للشيخ الكردي حضرة سعد الدين أفندي. سمعت من أصدقاء في الشرطة بأن مريدي الشيخ المتزايد عددهم يوميا نزلوا بناء علي دعوته من القرية في الجبل إلي قارص، وجذبوا الفقراء المساكين العاطلين عن العمل، واليائسين من القارصيين إلي الذكر في تكيتهم، ولكنني لم أعر انتباها لهذا الأمر إذ أن الشرطة لن تسمح بفاعلية مناهضة للنظام الجمهوري كهذه. والآن أصعد درج هذا الشيخ وعيناي تدمعان. لقد حدث ما كنت أخاف منه علي مدي سنوات، وما كنت أراه أيام إلحادي ضعف وتخلف: أعود إلي الإسلام. في الحقيقة أنني كنت أخاف من هؤلاء الشيوخ المتخلفين الذين ترسم كاريكاتوراتهم بلحي مدورة
--------------------------------------------------------------------------------
وججبب، والآن وأنا أصعد سلالمهم بإرادتي أبكي مشهشها. كان الشيخ رجلا جيدا. سألني عن سبب بكائي. طبعا لن أقول بأنني أبكي لوقوعي بين مشايخ رجعيين ومريديهم. فوق هذا كنت خجلا كثيرا من رائحة العرق التي تفوح من فمي كأنها تطلق من مدخنة. قلت بأنني أضعت مفتاحي. خطر ببالي بأن علاقة مفاتيحي سقطت حيث تمددت من أجل أن أموت. قفز المريدون ذوو القبعات الطولانية الذين بجواره للبحث عن مفاتيحي في الشارع حين كان هو يشير إلي المعني المجازي للمفتاح، وأرسلهم للبحث عنه. حين بقينا وحدنا ابتسم لي بشكل جميل. ارتحت حين أدركتج أن هذا هو الرجل المسن الطيب القلب الذي حلمت به قبل قليل.
قبلت يد هذا الرجل صاحب القداسة باندفاع قلبي لأنه بدا لي مثل وليٌ. عمل شيئا دهشت له كثيرا. هو أيضا قبل يدي. انتشرت في داخلي طمأنينة لم أشعر بها منذ سنوات. فهمت بسرعة بأنني أستطيع أن أحكي له كل شيء، وعن حياتي كلها. وهو أيضا سيدلني علي طريق الله جل جلاله الذي كنت أصلا أعرف وجوده بقلبي أيام الإلحاد. وهذا كان يسعدني بشكل مسبق. وجدوا مفتاحي. في تلك الليلة عدت إلي بيتي ونمت. صباحا خجلت من هذه التجربة كلها. تذكرت ما جري لي وكأنه خيال بعيد، ولم أرغب أساسا بتذكره. أقسمت لنفسي ألا أعود ثانية إلي التكية. كنت أخشي من لقاء المريدين الذين رأوني في التكية تلك الليلة في مكان ما، وهذا ما كان يربكني. ولكن في ليلة أخري في أثناء عودتي من خمارة (الوطن الأخضر) قادتني قدماي تلقائيا إلي هناك. وعلي الرغم من شعوري بالخيبة والندم طوال النهار، فقد استمر هذا في الليالي اللاحقة. كان الشيخ يجلسني في أقرب مكان إليه، ويستمع إلي همومي، ويرسخ محبة الله في قلبي. كنت أبكي دائما وأشعر نتيجة هذا بالطمأنينة. ولكي أخفي ذكر التكية مثل سر في النهار، أحمل أكثر الصحف التي أعرفها علمانية وهي الجمهورية، وأحكي هنا وهناك مشتكيا من انتشار المتدينين أعداء الجمهورية، وعن أسباب عدم عقد جمعية الفكر الأتاتوركي اجتماعاتها.
استمرت هذه الحياة المزدوجة حتي سألتني إيبك: هل هناك امرأة أخري؟ اعترفت بكل شيء باكيا. وهي أيضا بكت وهي تقول: هل صرت دينيا؟ هل ستجعلني أربط رأسي؟ أقسمت لها بأنني لن أطلب منها طلبا كهذا. ولأن ما جري لنا أشعرني بأنه شيء يشبه السقوط في الفقر، قلت لها بأن كل شيء في الدكان يسير علي ما يرام، وأن المدافئ الكهربائية الجديدة (أرتشلك) تباع بشكل جيد علي الرغم من انقطاع الكهرباء، لكي تشعر بالراحة. في الحقيقة كنت سعيدا لأنني أستطيع إقامة الصلاة في البيت. بدأت أمامي حياة جديدة.
وبعد صحوة قليلة، كتبت بإلهام مفاجئ قصيدة عظيمة. شرحت فيها خيبة أملي، وخجلي وحب الله المتصاعد في قلبي، وطمأنينتي، وأول صعود لي سلالم شيخي المباركة، والمعني الحقيقي الإعجازي للمفتاح. لم يكن فيها أي نقص. أقسم أنها ليست أقل من شعر ذلك الشاعر الغربي الأحدث والأكثر عصرية الذي ترجمه فاخر. أرسلتها له فورا مع رسالة. انتظرت ستة أشهر، لم تنتشر في مجلة (حبر أخيليوس) التي كان يصدرها في تلك الأثناء. في أثناء ذلك الانتظار كتبت ثلاثة قصائد أخري. وقد أرسلتها خلال مدد زمنية يفصل بين الواحدة والأخري شهران. انتظرت سنة علي أحر من الجمرلم ينشر أي منها.
لم تكن أسباب تعاسة حياتي في تلك المرحلة عدم إنجابي ولدا حتي تلك الفترة، ولا مقاومة إيبك تلبية الضرورات الإسلامية، ولا استهانة أصدقائي القدامي العلمانيين واليساريين لأنني صرت دينيا. في الحقيقة إن وجود كثير من أمثالي العائدين إلي الإسلام بانفعال يجعلهم لا يهتمون كثيرا بالأمر. أكثر ما هزني هو عدم نشر هذه القصائد التي أرسلتها إلي اسطنبول. في بداية كل شهر موعد صدور العدد كانت الأيام والساعات لا تعرف المرور، كنت كل شهر أخفف عن نفسي بالتفكير بأن إحدي القصائد ستنشر في هذا العدد. لا يمكن مقارنة الحقيقة التي في تلك القصائد إلا بالحقيقة التي في الشعر الغربي. وكنت أعتقد بأن فاخر فقط هو الذي يستطيع القيام بهذا في تركيا.
بدأت أبعاد الظلم الذي تعرضت إليه والغضب بتسميم السعادة التي منحني إياها الإسلام. صرت أفكر بفاخر وأنا في الجامع أقيم الصلاة، وأنا تعيس من جديد. قررت أن أفاتح شيخي بضيقي ولكنه لم يفهم الشعر الحديث و(رين تشار) والجملة المقسومة من منتصفها، و(ملارمي) و(جوبرت)، وصمت الشطر الفارغ.
هذا ما هز ثقتي بشيخي. وفي الحقيقة إنه لا يفعل سوي أنه يكرر إلي حوالي ثمانية أو عشر جمل مثل: حافظ علي نظافة قلبك. إن شاء الله ستخرج من هذا التخبط بواسطة حب الله.. ولا أريد أن أغبط الرجل حقه، لم يكن رجلا بسيطا، هو صاحب معلومات بسيطة فقط. بدأ الشيطان الذي في داخلي والباقي من أيام إلحادي والذي نصفه عقلاني ونصفه ذرائعي بدأ بوخزي. أمثالي لا يمكن أن يجدوا الطمأنينة إلا في حزب سياسي يتعاضد فيه أصحاب القضايا المتشابهة من أجل قضية معينة. وهكذا فهمت بأن مجيئي إلي هنا، إلي الحزب، سيعطيني حياة معنوية أعمق وأكثر دلالة من تلك التي في التكية. التجربة الحزبية التي اكتسبتها في سنوات الماركسية أفادتني كثيرا في حزبي الذي يعطي أهمية للدين والمعنوية.
سأل كا: 'مثل ماذا؟'
انقطع التيار الكهربائي، وحل صمت طويل.
قال مختار فيما بعد في جو محمل بالأسرار: 'انقطعت الكهرباء'، وجلس كا في الظلام دون حراك، ودون أن يجيبه.
- 7 -
الإسلام السياسي هو الاسم الذي أطلقه علينا الغربيون والعلمانيون
في مركز الحرب، وفي مديرية الأمن، ومرة أخري في الشوارع
ثمة جانب يدفع إلي الخشية في جلوسهما في الظلام دون أن يتكلما بشيء ولكن كا يرجح هذه الخشية علي تكلٌف الحديث مع مختار كصديقين قديمين في النور. الشيء الوحيد الذي يربطه بمختار هو إيبك ويريد أن يتحدث معه حولها، وفي الوقت نفسه يخشي إظهار أنه عاشق لها. الشيء الآخر الذي يخاف منه هو أن يحكي مختار حكايات أخري، وهكذا سيجده مخبولا أكثر من خبله هذا الذي وجده عليه، وسيؤثر علي الإعجاب الذي يريد أن يشعر به نحو إيبك لأنها بقيت متزوجة من رجل كهذا طوال تلك السنين.
لهذا السبب ارتاح كا حين فتح مختار في وسط أزمة إيجاد موضوع سيرةّ أصدقائه اليساريين القدامي، والمنفيين السياسيين إلي ألمانيا. وإثر سؤال مختار، أتي باسما علي ذكر (الملاطيلي طوفان) ذي الشعر الأجعد بأنه كان يكتب في زمن ما 'مقالات حول العالم الثالث في المجالات'، بأنه ججن. وحكي له بأن آخر مرة رآه فيها كان في محطة القطار المركزية في شتوتغارت حاملا عصا طويلة، وفي نهايتها خرقة رطبة، ويصفر وهو يمسح الأراضي راكضا. لأن كالم يتضايق من كلامه سأله مختار عن محمود الذي كان يؤنبه باستمرار. قال كا بأنه انضم إلي جماعة خير الله أفندي الشرعية، وبالحرص الذي كان يشاجر فيه من أجل اليسار في يوم ما، يشاجر الآن في ألمانيا من أجل الجماعة والجامع الذي سيسيطر، وعن آخر، تذكره أيضا كا باسما وهو سليمان المحبب، وقد عاش من مال وقف كنيسة فتحت أحضانها للمنفيين السياسيين من العالم الثالث في بافيرا، وقد أجسكنوا في مدينة (تراونشتاين) وتضايق إلي حد أنه أتي إلي تركيا علي الرغم من معرفته بأنه سيدخل السجن. وتذكرا حكمت الذي قتل بشكل غريب وهو يعمل سائقا في برلين، وفاضل المتزوج من أرملة ضابط نازي عجوز ويدير معها (بنسيون)، وطارق النظري الذي عمل في هامبورغ مع المافيا التركية وصار غنيا. أما صادق الذي كان يعمل في طيٌ المجلات التي تخرج من المطبعة وكان مع مختار وكا وطانر وإيبك هو الآن رئيس عصابة تعمل بتهريب العمال إلي ألمانيا عبر جبال الألب. ويقال بأن (محترم) يعيش حياة تحت أرض سعيدة مع عائلته في إحدي محطات المترو الخاوية غير المستخدمة بسبب نظام المترو الخاص ببرلين والحرب الباردة والجدار. حين يتقدم القطار مسرعا بين محطتي (كروزبرغ) و(الكساندر بلاتز) يقف الاشتراكيون الأتراك المتقاعدون الذين في القاطرات وقفة الحداد مثل توقف لصوص اسطنبول القدماء حين يصلون إلي (أرناؤوط كوي) ناظرين إلي التيار البحري تحية للقاتل المأجور الأسطوري الذي فقد مع سيارته وفي لحظة التحية حتي لو كان المنفيون السياسيون لا يعرفون بعضهم بعضا يرمقون بأطراف أعينهم رفاقهم الذين يحيون بطل قضية أسطوري فقيد. رأي (كا) (روحي) الذي كان ينتقد رفاقه اليساريين لعدم اهتمامهم بعلم النفس، في برلين في قاطرة كهذه، وقد علم من عملية قياس تأثير الدعاية لنوع من (البيتنر) بالبسطرمة التي يفكر بتسويقها للعمال المهاجرين العاملين بالحد الأدني من الأجور، أنها مناسبة. أسعد المنفيين السياسيين الذين عرفهم كا في ألمانيا (فرهات)، فقد انضم إلي حزب العمال الكروستاني، وبانفعال قومي يهاجم مكاتب الخطوط الجوية التركية، ويظهر في CNN وهو يرمي زجاجات المولوتوف إلي قنصليات تركيا، ويتعلم الكروية متخيلا الشعر الذي سيكتبه في يوم ما. أما بعض الأسماء الأخري التي سأل عنها مختار بتوق عجيب إما أن كا قد نسي أصحابها منذ زمن طويل، أو سمع أنهم انضموا إلي عصابات صغيرة، أو يعملون مع المخابرات السرية، أو دخلوا في أعمال ظلامية وأزيلوا عن الوجود مثل كثيرين أمثالهم وفقدوا، أو أنهم قتلوا بصمت وأجلْقجوا في قناة.
وفي ضوء لهب الكبريت الذي أشعله صديقه القديم رأي الأغراض بما يشبه الخيال في مركز المحافظة للحزب، وطاولة صغيرة قديمة، ومدفأة كاز نهض، ثم ذهب نحو النافذة، وتفرج علي الثلج النادف بإعجاب.
كان الثلج يندف ببطء ندفا كبيرة تشبع العيون. ثمة جانب قوي يمنح للإنسان ثقة وطمأنينة في بطء ندف الثلج وامتلائه، وبياضه المتوضح جيدا تحت ضوء أزرق لا يعرف من أي مكان من المدينة ينبعث، وفي هذا الجانب ثمة ظرافة تجعل كا مندهشا. تذكر كا المساءات المثلجة في طفولته. وفي اسطنبول أيضا كانت تنقطع الكهرباء نتيجة الثلج والعواصف، وكان يسمع في بيته همس تمنيات 'الله يحمينا' التي كانت تسرع خفقان قلب كا الطفل، ويشعر بالسعادة لأن له عائلة. تفرج حزينا علي حصاني عربة تتقدم بصعوبة تحت الثلج: كان لا يستطيع أن يري في الظلام سوي رأسي الحيوانين يهتزان إلي اليمين وإلي اليسار بتوتر.
'مختار، أما زلت حتي الآن تذهب إلي شيخك الأفندي؟'
قال مختار: 'حضرة سعد الدين أفندي؟ أحيانا! لماذا؟'
'ماذا يمنحك؟'
'قليل من الصداقة، وقليل من الشفقة وإن كانت غير مستمرة. وهو عالم.'
ولكن كا أحس بأنه ثمة إحباط في صوت مختار وليس فرح. وقال معاندا من أجل الكلام: 'أنا أعيش حياة وحدة شديدة في ألمانيا. في منتصف الليل حين أنظر إلي أسطح أبنية فرانكفورت أشعر أن هذه الحياة كلها وهذا العالم لم يوجد للاشيء. وأشعر في داخلي بمجموعة أصوات.'
'ماذا تشبه تلك الأصوات؟'
قال كا خجلا: 'لعلي أشعر بها لأنني تقدمت في السن، وأخاف من الموت. لو كنتج كاتبا لكتبت عن نفسي: (الثلج يذكر كا بالله)، ولكن لا أدري إن كان هذا صحيحا. صمت الثلج يقربني من الله.'
قال مختار متعجلا، ومنجرفا وراء أمل خاطئ: 'بعد سنوات الإلحاد اليساري التي عشتها تبين لي أن المتدينين، واليمينيين، والمحافظين المسلمين في هذا البلد جيدون جدا. يمكنك أن تجدهم. وأنا واثق بأنهم سيعجبونك جيدا.
'هكذا إذن؟'
'أولا إن رجال الدين هؤلاء كلهم متواضعون، مرنون، متفهمون. لا يستهينون بالشعب فورا كأولئك الذين تحولوا إلي غربيين. وهم مشفقون، ومهمومون. إذا عرفوك أحبوك، ولا يطعنون بأحد. يعرف كا وبشكل مسبق بأن الإيمان بالله وحده في تركيا وحده ليس الفكرة الأقدس لدي الإنسان، ولقاء مع المبدع الأكبر، بل هو قبل كل شيء دخول إلي جماعة أو أوساط معينة، ولكن رغم هذا فإن حديث مختار عن فوائد الجماعة غير المتطرق لله وللإيمان الفردي أشعره بالإحباط. لهذا السبب شعر بأنه يستهين بمختار. ولكنه بينما كان ينظر من النافذة التي يسند جبينه إليها قال لمختار أمرا آخر تماما بإحساس غريزي.
'مختار! يبدو لي بأنك ستستهين بي وتشعر بالإحباط لو أنني بدأت أؤمن بالله.'
'لماذا؟'
'لأن الفرد المؤمن بالله وحده صار غريبا، ووحيدا ويخيفك. إنك تجد أن رجلا غير مؤمن في جماعة موثوق أكثر من رجل مؤمن وحده. بالنسبة إليك فإن الرجل الوحيد أسوأ، وأبأس من رجل غير مؤمن.'
قال مختار: 'أنا أشعر بوحدة شديدة'
أشفق كا وتألم عليه لأنه استطاع أن يقول هذه العبارة بكل هذا الصدق والإقناع. والآن يشعر بأن ظلمة الغرفة تخلق نوعا من الاعتياد بالنسبة إليه، وإلي مختار أيضا. 'لن أكون متديٌنا، ولكن هل تعرف السبب الذي يخيفك من أن أكون متدينا أقيم في اليوم خمس صلوات؟ أنت لا تتمسك بالدين والجماعة إلا إذا أخذوا أمثالي من العلمانيين والملحدين أمور الدولة والتجارة علي عاتقهم. لا يمكن للإنسان أن يتعبد براحة ضمير في هذا البلد دون الثقة باجتهاد ملحد في أعمال خارج الدين تقود التجارة مع الغرب والسياسة علي أكمل وجه.'
'ولكنك لست رجلّ دولة وتجارة خارج الدين. يمكنني أن آخذك إلي حضرة الأفندي الشيخ حين تشاء.'
قال كا: 'لقد أتت شرطتنا غالبا.'
نظر الإثنان من فاصل الزجاج المتجلد في أكثر من مكان بصمت إلي مدنيين نزلا من سيارة الشرطة ببطء تحت الثلج.
قال مختار: 'سأطلبج منك شيئا الآن. بعد قليل سيأتي هؤلاء الرجال إلي هنا، وسيأخذاننا إلي مركز الشرطة. لا يمكن أن يوقفوك. سيأخذون إفادتك ويتركونك. عد إلي فندقك. مساء سيدعوك صاحب الفندق السيد طورغوت إلي الطعام. عليك أن تذهب. وهنالك طبعا ستكون ابنته الفضولية. حينئذ أريدك أن تقول هذا. هل تسمعني؟ قل له إنني أريد أن أتزوج إيبك مجددا! كان طلبي منها تغطية رأسها، وارتداء ألبسة تناسب القواعد الإسلامية طلب خاطئ. وقل بأنني لن أعود لتصرفات زوج ريفي غيور ذي رؤية ضيقة. وإنني نادم وخجل من الضغوط التي مارستها عليها في أثناء زواجنا!'
'ألم تقل هذا لإيبك من قبل؟'
'قلته، ولكن لم أجد فائدة. لعلها لا تصدقني لأنني رئيس فرع حزب الرفاه في المحافظة. أنت رجل مختلف لأنك قادم من اسطنبول وحتي من ألمانيا. إذا قلتّ هذا ستصدق.'
'كون زوجتك دون غطاء رأس ألا يضعك في موقف سياسي حرج كونك رئيس فرع حزب الرفاه في المحافظة؟'
قال مختار: 'بعد أربعة أيام سأنجح في الانتخابات بإذن الله وأصير رئيس بلدية، ولكن الأهم من هذا شرحك أنت عن ندمي لايبك. لعلني سأكون حتي تلك الساعة رهن التوقيف. هل تعمل هذا من أجلي يا أخي؟'
للحظة تردد كا، بعد ذلك قال: 'أعمله'
عانق مختار كا، وقبله من خديه. شعر كا بإحساس ما بين الشفقة والقرف، واستهان بنفسه لأنه ليس فطريا وصريحا مثل مختار.
قال مختار: 'أرجو أن تعطي بيدك قصيدتي هذه لفاخر في اسطنبول. إنها القصيدة التي ذكرتها قبل قليل، عنوانها: (درج)'.
بينما كان كا يضع القصيدة في جيبه دخل إلي الغرفة ثلاثة رجال مدنيين. في يدي اثنين منهما مصابيح يدوية ضخمة. كانوا مستعدين وتواقين، ويفهم من حالتهم أنهم يعرفون جيدا ما يفعله كا ومختار هنا. فهم كا أنهم من تشكيلات المخابرات القومية. رغم هذا سألوا كا عن عمله هنا وهم ينظرون إلي هويته. قال كا لهم إنه جاء من اسطنبول لكتابة مقالة لجريدة الجمهورية عن الانتخابات البلدية، والنساء المنتحرات.
قال أحد العناصر: 'إنهن ينتحرن أصلا من أجل أن تكتبوا لجرائد اسطنبول.'
قال كا معاندا: 'لا، ليس من أجل هذا.'
'لماذا إذن؟'
'إنهن ينتحرن بسبب التعاسة.'
'نحن أيضا تعساء ولكننا لا ننتحر.'
من جهة أخري يفتحون خزائن مركز المحافظة للحرب، يخرجون الأدراج ويفرغونها علي الطاولة، ويبحثون في الملفات في ضوء المصابيح اليدوية. قلبوا طاولة مختار من أجل أن ينظروا تحتها عما إذا كان هنالك سلاح.
جروا إحدي الخزانات إلي الأمام وفتشوا خلفها. تصرفوا مع كا بشكل أفضل بكثير من تصرفهم مع مختار.
'حين رأيت أن المدير قد أطلق عليه النار لماذا أتيت إلي هنا ولم تذهب إلي الشرطة؟'
'لدي موعد هنا.'
'من أجل ماذا؟'
قال مختار بصوت معتذر: 'نحن صديقان قديمان من أيام الجامعة. زوجتي وصاحبة فندق (ثلج بلاس) الذي يقيم فيه. قبل الاعتداء بقليل اتصلوا بي إلي هنا، إلي مركز الحزب وحددوا موعدا. ويمكنك التأكد من هذا لأن المخابرات تتنصت علي هواتف حزبنا.'
'من أين تعرفون أننا نتنصت علي هواتفكم؟'
قال مختار دون ارتباك: 'أنا أسف. أنا لا أعرف، ولكنني أتوقع. لعلني مخطئ.'
كان كا يشعر بأن موقف مختار المنكسر إزاء عدوانية الشرطة وإهاناتهم، ودفعهم ووخزهم واعتياده علي قسوة الدولة كأنها أمر طبيعي مثل انقطاع التيار الكهربائي وكون الطرقات طينية بأنه نوع من برودة الأعصاب والانسحاق وشعر باحترام نحوه لأنه لا يتمتع بهذه المرونة والمواهب.
وبعد تفتيش طويل لمركز الحزب في المحافظة، وقلب الملفات رأسا علي عقب، وربط بعضها بخيوط وملء أكياس بها، وإملاء محضر تفتيش، وبينما كانا يجلسان في المقعد الخلفي لسيارة الشرطة صامتين مثل تلميذين مذنبين رأي انسحاق مختار ذاته في يديه البيضاوين الموضوعتين بهدوء علي ركبتيه مثل الكلاب المسنة السمينة. وبينما كانت سيارة الشرطة تتقدم في شوارع قارص المثلجة والمظلمة تفرجا حزينين علي الأضواء البرتقالية الشاحبة المتسربة من نوافذ البيوت الأرمنية المفتوحة ستائرها نصف فتحة، والمسنين الماشين ببطء علي الأرصفة المتجلدة وحاملين بأيديهم أكياسا بلاستيكية، وواجهات البيوت القديمة الفارغة الوحيدة بقدر حياتهما. عجلٌقت ملصقات عرض المساء علي خشبة إعلانات مسرح الشعب. مازال العمال الذين يمدون كابل النقل عبر الشوارع يعملون. ثمة جو انتظار عصبي في مركز انطلاق الحافلات بسبب انقطاع الطرق.
تقدمت سيارة الشرطة ببطء تحت الثلج الذي تبدو ندفه كبيرة كما في الحكايات والتي تبدو بعين كا شبيهة بندف الثلج في لعب الأطفال المليئة بالماء والتي يطلقون عليها اسم 'عاصفة الثلج'. طوال هذه السفرة القصيرة جدا والمستغرقة سبع أو ثماني ثوان بسبب قيادة السائق البطيئة والحذرة تقابلت عينا كا مع عيني مختار الجالس بجانبه مرة واحدة وفهم من نظرات صديقه القديم الحزينة والداعية إلي الهدوء بأنهم الآن في مديرية الأمن سيضربون مختارا، أما هو فلن يمسونه شاعرا بالخجل والراحة الداخلية.
وشعر الصديق من النظرات التي لن ينساها حتي بعد سنوات طويلة بأن كا يعتبر أن مختارا يستحق الضرب الذي سيضربه بعد قليل. علي الرغم من إيمان مختار المطلق بأنه سينجح في الانتخابات البلدية التي ستجري بعد أربعة أيام، ولكن في عينيه توكلا ونظرة آسفة مسبقا لما سيجري، وفهم كا بأن مختارا يفكر علي هذا النحو: 'لأنني مازلت مصٌرا علي العيش في هذه الزاوية من العالم، وحتي لأنني انجرفت وراء الحرص علي السلطة فإنني أستحق الضرب الذي سأضربه بعد قليل والذي سأحاول في أثنائه أن أتغاضي عن إهانة كرامتي، وأعرف هذا لذلك أنا أري نفسي أقل منك. وأنت أيضا لطفا لا تنظر إلي عيني صافعا لي بخجلي.'
عندما توقفت الحافلة الصغيرة في باحة مديرية الأمن المغطاة بالثلج لم يفصلوا مختارا عن كا، ولكنهم تصرفوا معهما بشكل مختلف كثيرا. لقد عاملوا كا باعتباره صحفيا شهيرا مؤثرا قادما من اسطنبول إذا كتب ضدهم يمكن يحصل لهم بعض الهموم، وشاهدا جاهزا للتعاون معهم. أما في معاملتهم مع مختار فقد كان هنالك جو مهين كأنهم يقولون له: 'هذا أنت من جديد!' كما ظهروا كأنهم يلتفتون إلي كا قائلين: 'ما عمل واحد مثلكم مع شخص كهذا؟'. اعتبر كا ببراءة أن له جزءا من مسؤولية في التصرفات المهينة لمختار واعتباره دون عقل (أتعتقد أنهم سيسلمونك هذه الدولة؟) ومرتبك (عليك أن تتبني حياتك أولا). ولكنه فيما بعد بكثير فهم أن مايوحي به أمر مختلف جدا.
أخذوا كا إلي غرفة مجاورة فترة ليتعرف علي المعتدي الضئيل الذي أطلق النار علي مدير المعهد، وعرضوا عليه حوالي مائة صورة بالأسود والأبيض مجموعة من الأرشيف. كان يوجد هنا صور كل شخص أوقفته قوي الأمن ولو مرة واحدة من قارص وجوارها من المنتمين للإسلام السياسي. أكثرهم شباب أكراد قرويون، ولكن بينهم باعة وخطباء مساجد وحتي طلاب جامعات ومعلمين وأتراكا سنٌة. عرف كا من صور الشباب الناظرين إلي آلة تصوير الأمن غاضبين ومهمومين وجهي شابين رآهما مصادفة في هذا اليوم الذي قضاه في قارص. ولكن لم يكن من الممكن أن يتعرف علي المعتدي الذي يعتقد أنه أكبر سنا وأضأل حجما من هذه الصور بالأسود والأبيض.
حين عاد إلي الغرفة الثانية رأي مختارا جالسا علي الكرسي دون المسند نفسه وقد برزت انحناءة ظهره، وأن أنفه يدمي والدم نفر إلي إحدي عينيه. بعد أن عمل مختار حركة أو اثنتين خجلا أخفي وجهه جيدا بمنديله. وفي الصمت تخيل كا بأن مختارا تطهٌر عبر هذا الضرب من العذاب والإحساس بالذنب مما تعانيه بلده من فقر وخبل.
قبل يومين من تلقي كا الخبر الذي سيكون أكثر ما يتعسه في حياته كلها في هذه المرة سقط في موقع مختار سيتذكر هذا الخيال حتي ولو كان خبلا.
بعد دقيقة من التقاء نظره بنظر مختار أخذوا كا إلي الغرفة المجاورة من جديد لأخذ إفادته. في أثناء استخدام الشرطي الشاب للآلة الكاتبة ماركة (ريمنغتن) شقيقة تلك التي كان يضرب عليها أبوه المحامي في الأمسيات التي كان يجلب شغله فيها إلي البيت عندما كان صغيرا، وبينما كان يشرح كا كيف أجطلقت النار علي مدير معهد المعلمين كان يفكر بأنهم أّرّوه مختارا لكي يخيفوه.
حين أطلقوا سراحه بعد قليل لم يغب وجه مختار المدمي عن عينيه مدة طويلة. قديما لم يكن من السهل أن تضرب شرطة الأماكن الريفية المحافظين. ولكن مختارا ليس من حزب يميني وسط مثل حزب الوطن الأم، بل من فكر يحاول أن يكون إسلاميا متطرفا. وقد شعر أيضا بأن لشخصية مختار أيضا علاقة بالوضع. سار مطولا تحت الثلج. جلس علي جدار في منطقة تحت شارع أوردو. في ضوء مصباح الشارع الشاحب تفرج علي الأولاد المتزلجين في الطريق الصاعد، ودخن سيجارة. كان متعبا من العنف والحرمان الذي شهده طوال النهار، ولكن أملّ البدء بحياة جديدة جدا بحب إيبك يتململ في داخله.
بعد قليل، بينما كان يسير تحت الثلج مجددا، وجد نفسه علي الرصيف مقابل محل الحياة الجديدة للمعجنات. سيارة الشرطة الواقفة أمام واجهة المحل المكسور زجاجها ينطفئ ويشعل ضوؤها الكحلي منيرا وبشكل ممتع الشرطة الذين في محل المعجنات، وازدحام الأولاد الذين يتفرجون، والثلج النادف فوق قارص كلها بصبر إلهي. كا أيضا دخل وسط الزحام، ورأي أن الشرطة في محل المعجنات ما زالت تسأل النادل العجوز عن أمور ما.
أحدهم لكز كتف كا بحركة متوجسة: 'حضرتكم الشاعر كا، أليس كذلك؟'
كان شابا ذا وجه طفولي طيب، وعينين خضراوين واسعتين 'اسمي نجيب. أعرف أنكم أتيتم إلي قارص من أجل الكتابة لجريدة الجمهورية حول انتخابات قارص والفتيات المنتحرات، وقد التقيتم مع عدد من الجماعات ولكن ثمة شخص مهم في قارص يجب أن تلتقوه.'
'من؟'
'هل تنسحب جانبا؟'
أحب كا تلك الحالة المحملة بالأسرار التي يتلبسها الشاب. انسحبا إلي المقصف الحديث 'المشهور عالميا بشراباته وسحلبه'
'غير مرخص لي بالبوح باسم الشخص الذي يجب أن تلتقوه إلا إذا قبلتم لقاءه.'
'كيف أقبل لقاء شخص قبل أن أعرف من هو؟'
قال نجيب: 'الأمر هكذا، لأن ذلك الشخص متخفي. أنا لا أستطيع البوح لكم عن سبب تخفيه وممن قبل قبولكم لقاءه.'
قال كا: 'حسن، أنا أقبل لقاءه' وأضاف متلبسا شخصية خارجة من الروايات المصورة: 'أتمني ألا يكون هذا فخا.'
قال نجيب وبشخصية كأنها خارجة من الروايات المصورة أيضا: 'إذا لم تثق بالناس فلن تستطيع عمل شيء.'
قال كا: 'أنا أثق بكم. من هو الشخص الذي يجب أن ألتقيه؟'
'ستلتقيه بعد أن تعرف اسمه، ولكنك ستخبئ مكان تخفيه مثل سر. فكر مجددا الآن. هل أقول لك من هو؟'
قال كا: 'نعم، وأنتم أيضا ثقوا بي.'
قال نجيب منفعلا وكأنه يذكر اسم بطل أسطوري: اسم ذلك الشخص
(كحلي)(ھ)' وحين لم يتلق أية ردة فعل من كا شعر بخيبة أمل 'ألم تسمعوا به وأنتم في ألمانيا؟ إنه شهير جدا في تركيا.'
قال كا بتأثير المهدئ: 'أعرف. أنا جاهز للقائه.'
قال نجيب: ولكنني لا أعرف أين هو. حتي إنني لم أره في حياتي كلها.'
للحظة تبادلا النظر متبادلين الشك والابتسامة.
قال نجيب: 'شخص آخر سيأخذك إلي (كحلي). المهمة الموكلة إلي هي أن أقابلك بالشخص الذي سيأخذك إليه.'
سارا معا من شارع (كاظم بيك الصغير) منحدرين تحت أعلام الانتخابات الصغيرة، وبين الملصقات. حركات الشاب المتوترة والطفلية، وجذعه النحيل ذكرت كا بأمور من شبابه، وأشعرته بقرب منه. فجأة قبض علي نفسه متلبسا برؤية العالم بعيني الشاب.
سأل نجيب: 'ماذا سمعتم عن (كحلي) في ألمانيا؟'
قال كا: 'قرأت في الصحف التركية أنه مقاتل من الإسلام السياسي. وقرأتج أمورا أخري سيئة عنه'.
قاطع كلامه نجيب متسرعا: 'الإسلام السياسي اسم أطلقه الإعلام الغربي والعلماني علينا نحن المسلمين الجاهزين لخوض المعارك في سبيل ديننا. أنتم علمانيون، ولكن لطفا لا تجخدعوا بالكذب الذي نشره عنه الإعلام العلماني. هو لم يقتل أحدا حتي في البوسنة حيث ذهب للدفاع عن أخوته المسلمين، وحتي في غروزني حيث عجوٌِق بانفجار قنبلة روسية.'
أجوقف كا في إحدي الأطراف: 'أتري هذا الدكان في الطرف الآخر؟ مكتبة التبليغ ... إنها لجماعة الوحدة، ولكن إسلاميي قارص كلهم يلتقون فيها. الشرطة تعلم هذا كالجميع. لها جواسيس بين طاولات عرض الكتب. أنا طالب في ثانوية الأئمة والخطباء. دخولنا إلي هناك ممنوع، نعاقب عقوبة انضباط لو دخلنا، ولكنني سأرسل خبرا إلي الداخل. بعد ثلاث دقائق سيخرج شاب طويل القامة، مجلتحي، يضع علي رأسه طربوشا أحمر مطاولا. اتبعه. إذا لم يكن خلفه شرطة مدينة سيقترب منك، ويأخذك إلي حيث يجب. هل فهمت؟ ليكن الله بعونك.'
في لحظة غاب نجيب وسط ندف الثلج الكثيف. شعر كا في داخله بمحبة نحوه.
- 8 -
المنتحر كافر حكاية (كحلي) ورستم
بينما كان كا ينتظر مقابل مكتبة التبليغ تسرٌع نّدْفج الثلج. لحظة أن قرر كا العودة إلي فندقه لضجره من نفض الثلج المتراكم علي رأسه وجسمه، ومن الانتظار انتبه إلي الشاب الطويل الملتحي يمشي علي الرصيف المقابل تحت ضوء مصباح الشارع الشاحب. سار وضربات قلبه تتسرع حين رأي أن الطربوش الطويل الأحمر علي رأسه تحول بسبب الثلج إلي أبيض.
سارا علي طول شارع كاظم قرة بكر الذي وّعّدّ مرشحج رئاسة البلدية من حزب الوطن الأم بتخصيصه للمشاة فقط مقلدا المرشحين الاسطنبوليين، انعطفا نحو شارع (فائق بيك) وبعد زقاقين انحرفا يمينا، ووصلا إلي ساحة المحطة. ضاع شكل تمثال كاظم قرة بكر القائم وسط الساحة تحت الثلج متحولا إلي شكل من أشكال المثلجات الكبيرة. حين رأي كا أن الشاب الملتحي قد دخل إلي بناء المحطة هرع خلفه راكضا. لم يكن ثمة أحد في قاعات الانتظار. شعر بأن الشاب قد صعد إلي الرصيف وتبعه. وفي المكان الذي انتهي عنده الرصيف بدا له الشاب وسط الظلام أمامه، فسار متوجسا علي طول السكة الحديدية. خطر بباله أنه لو أطلق عليه النار هنا فورا فإن أحدا لن يجد جسده قبل الربيع. وصل إلي مواجهة الشاب الملتحي المعتمر الطربوش.
قال الشاب: 'لايوجد أحد خلفنا. ومازال بإمكانك التراجع. أما إذا أردت أن تأتي معي فعليك أن تمسك لسانك عما ستراه بعد الآن. لا يمكنك مطلقا أن تبوح ولا بأي شكل بكيفية قدومك إلي هنا. الموت نهاية الخونة.'
ولكن كلمته الأخيرة هذه لم تجخِفْ كا، لأن له صوتا رفيعا إلي حد يمكن القول بأنه مضحك. سار بمحاذاة السكة الحديد، وعبر من جانب صومعة الحبوب، وبعد أن دخلا إلي زقاق (ياهنيلر) المجاور مباشرة لمكان سكن العسكريين، أشار الشاب صاحب الصوت الرفيع إلي البناء الذي سيدخله كا، وشرح له أي جرس سيقرع. وقال: 'لا تقلل احترامك أمام المعلم، ولا تقاطعه، وعندما ينتهي عملك اخرج دون مماطلة.'
وهكذا علم كا بأن لكحلي اسما مستعارا آخر بين المعجبين به وهو: 'المعلم'. وفي الحقيقة فإن كا لا يعلم عن (كحلي) إلا القليل جدا غير كونه من الإسلام السياسي، وأنه مشهور. وكان كا قد قرأ قبل سنوات طويلة في الجرائد التركية التي وصلت إليه في ألمانيا بأنه مرتبط بجريمة قتل. ثمة كثيرون من تيار الإسلام السياسي قتلوا أشخاصا، ولكن أحدا منهم ليس شهيرا. ما جعل كحلي شهيرا هو الادعاء بأنه قتل مذيعا سفيها ذا صوت أنثوي يقدم برنامج مسابقات يمنح جوائز نقدية في قناة تلفزيونية صغيرة، ويرتدي ثيابا براقة لماعة ملونة، ويطرح ممازحات فضائحية، وعادية، ويهين بشكل دائم 'الجهلة'. المذيع الساخر المدعو (غونر بنر) والمغطي وجهه بالشامات، وفي زلة لسان في أثناء أحد برامج المسابقات المبثوث علي الهواء مباشرة، وبينما كان يسخر من متسابق فقير، خجول نطق بعبارة لا تليق بحضرة الرسول، وحينما بدأ يجنسي غضب بعض المتفرجين المتدينين الناعسين أرسل كحلي إلي صحف اسطنبول رسائل، وهدد بأنه سيقتله إذا لم يعلن التوبة ويعتذر في البرنامج نفسه. لعل صحف اسطنبول المعتادة علي تهديدات من هذا النوع لن تهتم بهذه الرسالة، ولكن قناة تلفزيونية صغيرة تنهج سياسة علمانية استفزازية أظهرت (كحليا) في أحد برامجها من أجل تقديم مقولة إن الإسلاميين السياسيين حاملو الأسلحة قد وصلوا إلي حد من السعر، وأعاد هو تهديده مبالغا به. وإثر نجاح هذا البرنامج، بدأ يرضي بالظهور في قنوات تلفزيونية أخري بدور 'الإسلامي المسعور حامل الساطور'. وفي هذه الأثناء التي بدأت فيها شهرته تتصاعد، أعلنت النيابة العامة أنها تبحث عنه بتهمة 'التهديد بالقتل'، وبدا (كحلي) بالتخفي. أما (غونر بنر) الذي رأي اهتمام الرأي العام بالقضية، صار كل يوم ينطٌّ بشكل غير متوقع متحديا بقوله: 'بأنه لا يخاف من المنحرفين الرجعيين أعداء الجمهورية وأتاتورك.' وبعد يوم وجد في غرفة الفندق الفخم الذي يقيم فيه في إزمير التي قصدها من أجل برنامجه ميتا خنقا بربطة عنقه ذات رسم كرة البحر التي يضعها من أجل البرنامج. وعلي الرغم من إثبات (كحلي) بأنه في اليوم نفسه والساعة نفسها كان يقدم محاضرة في مدينة مانيسا دعما لفتيات الإشاربات، فقد هرب من الإعلام الذي نشر القضية وشهره علي صعيد تركيا كلها، واستمر بالتخفي. وقد غاب (كحلي) عن الأنظار مدة طويلة لأن قسما من الصحافة الإسلامية أيضا هاجمته بما لا يقل عن الإعلام العلماني مقدمة الأسباب أنه أظهر الإسلام السياسي مدمي الأيدي، وبالتالي فهو ألعوبة الإعلام العلماني، ويسرٌج من الشهرة والإعلام بما لا يليق بإسلامي، وهو عميل للمخابرات المركزية الأمريكية. في هذه الأثناء نشرت في الأوساط الإسلامية بأنه قاتل ببطولة ضد الصرب في البوسنة، وضد الروس في غروزني، ولكن ثمة قائلين بأن هذا الكلام كذب أيضا.
التواقون لمعرفة ما يفكر فيه (كحلي) حول هذه المواضيع، يمكنهم مطالعة الصفحة الخامسة والمقطع الذي يبدأ بكلمة 'أريد' من الفصل الخامس والثلاثين المعنون 'أنا لست عميل أحد'، والعنوان الفرعي: 'كا وكحلي في الزنزانة' من كتابنا هذا إذ يحكي باختصار قصة حياته، ولكنني لست واثقا من صدق كل ما قاله بطلنا هناك. كثير من الكذب المطلق حوله، ووصول بعض الشائعات التي تتناوله إلي نوع من الأسطورة يجد أرضية خصبة في جو كحلي السري. كما أنه يمكن اعتبار أن الصمت الذي لفه حول نفسه جاء نتيجة الانتقاد الشديد الذي وجهته الأوساط الإسلامية بعد شهرته الأولي، وأنه اعتبر الانتقادات الموجهة له حول عدم ظهور المسلم كثيرا في الإعلام العلماني الصهيوني البورجوازي، صحية، ولكننا وكما سنري في حكايتنا بأن (كحليا) في الحقيقة يحب الحديث للإعلام.
أما الإشاعات حول مجيئه إلي قارص لا تتوافق بغالبيتها كما يحدث في الإشاعات التي تنتشر فجأة في الأمكنة الصغيرة. يقول البعض بأن كحليا جاء إلي قارص من أجل حماية قاعدة منظمة كردية إسلامية انهارت قيادتها في ديار بكر نتيجة مداهمات الدولة، وانكشاف بعض أسرارها، ولكن في الحقيقة ليس للمنظمة المذكورة في قارص سوي بضعة مجاذيب. ويشاع بين العناصر المسالمة وصاحبة النوايا الطيبة في كلا طرفي القوميين الماركسيين الأكراد والإسلاميين الأكراد بأن كحليا جاء لتهدئة صراع بدأ بينهما وكبر في المحافظات الشرقية. بدأت الاحتكاكات بين الإسلاميين الأكراد والقوميين الماركسيين الأكراد بالملاسنة وتبادل الشتائم والضرب بالأيدي ومشاجرات الأزقٌة، وتحولت في كثير من المدن إلي تبادل الطعن بالسكاكين والضرب بالساطورات، أما في الأشهر الأخيرة فقد بدؤوا بإطلاق النار قاتلين بعضهم بعضا، وتحقيق كل طرف مع الآخر باستخدام التعذيب (كل طرف يستخدم أساليب مثل تقطير النايلون المذاب وعصر الخصيتين) والخنق. كما أن كثيرين ممن يقولون عن هذا الصراع بأنه 'مفيد للدولة' يدعون بأن كحليا يتجول علي البلدات لاستطلاع رأي القاعدة لتشكيل هيئة وساطة، ولكن أعداءه يعتبرونه غير مناسب لهذه المهمة الصعبة، والمهمة بسبب النقاط المظلمة التي في حياته وعمره الشاب. وقد نشر الإسلاميون الشباب بأنه جاء إلي قارص من أجل تنظيف (فارس الديسك)(ھ) والمقدم 'اللماع' المرتدي ألبسة لماعة والسافر بشكل موارب من الإسلام، ويقدم ممازحات غير مؤدبة حوله في تلفزيون قارص سرهات المحلي في قارص، لهذا السبب فإن مقدم البرامج الآذري الأصل والمدعو (حاقان أوغوظ) صار يذكر كل فترة الله وأوقات الصلاة. وهنالك من يتخيل أن كحليا يتحرك في تركيا باعتباره أداة الارتباط في تركيا لشبكة إرهاب إسلامية دولية. ووصل الأمر إلي اعتبار كحليا خطط لوحدات أمنية واستخبارية لشبكة مدعوما سعوديا من أجل قتل بعض العاهرات من الآلاف اللواتي يأتين من دول الاتحاد السوفييتي السابق إلي تركيا من أجل تيئيسهن. كما أن كحليا لم ينفِ شائعات تقول إنه جاء إلي قارص من أجل المنتحرات أو من أجل ذوات الإشاربات، أو من أجل الانتخابات. وعدم ظهوره في أي مكان، وعدم إجابته عن أية مقولة من هذه المقولات المشيٌعة حوله أو تكذيبها تمنح جوا محملا بالأسرار يشيع السرور بين أوساط طلاب مدارس الأئمة والخطباء الشباب. إنه لا يظهر في أزقة قارص ليس لأنه مختبئ عن الشرطة بل لكي لا يخرب هذا الجو الأسطوري، وهذا ما يخلق شكا في موضوع وجوده في المدينة أو عدم وجوده.
قرع كا الجرس الذي دله عليه ذو الطربوش الأحمر المطاول. فهم كا بسرعة أن الرجل القصير الذي فتح له باب شقة البناء، واستقبله هو الرجل الذي أطلق الرصاص علي مدير معهد المعلمين في محل الحياة الجديدة للمعجنات قبل ساعة ونصف. فور رؤيته الرجل بدأ قلبه يخفق.
قال الرجل القصير رافعا يديه في الهواء، مظهرا كفيه: 'عدم المؤاخذة. في السنتين الأخيرتين حاولوا ثلاث مرات قتل معلمنا. سأفتشكم.'
وباعتياد مستمر من سنوات الجامعة فتح كا ذراعيه نحو جانبيه للتفتيش. بينما كانت يدا الرجل الضئيل الصغيرتان تتجولان فوق القميص وعلي الظهر باحثتين بدقة عن سلاح، خشي كا من الانتباه إلي سرعة خفقان قلبه. بعد ذلك مباشرة انتظمت دقات قلب كا، وشعر بأنه أخطأ. لا، الرجل هذا الذي رآه لم يكن أبدا ذلك الرجل الذي أطلق النار علي مدير معهد المعلمين. لا يبدو هذا الرجل المحبب المتوسط العمر المذكر (بإدوارد ج. روبنسون) يمتلك التصميم الذي يمكنه من إطلاق النار علي أحدهم، ولا السلامة الجسدية.
______
ترجمة: عبدالقادر لؤي
أورهان باموق، روائي تركي | جائزة نوبل للأداب لعام 2006
الفصل الأول من رواية (ثلج) أورهان باموق | المسيرة الإلكتروني