16 يونيو 2010

مشاهدة المطر في غاليسيا | غابرييل جارسيا ماركيز/ Gabriel García Márquez (القصة العالمية)

 
لا بد أن يكون صديقي القديم الرسام والشاعر والروائي هيكتور روخاس هيرازو ـ الذي لم أره منذ وقت طويل ـ قد شعر برعشة الشفقة عندما رآني في مدريد في زحمة المصورين والصحفيين؛ لأنه جاء إليّ وهمس: «تذكر أن عليك أن ترأف بحالك من وقت إلى آخر.» وفي الواقع، مضت شهور ـ وربما سنوات ـ منذ أن أعطيت نفسي هدية تستحقها بجدارة. وهكذا قررت أن أمنح نفسي ما كان، في الحقيقة، واحداً من أحلامي: زيارة إلى غاليسيا.‏

لا أحد يستمتع بالأكل يستطيع أن يفكر بـِ غاليسيا دون التفكير أولاً بملذات مطبخها. «الحنين يبدأ بالطعام،» قال تشي غيفارا، مشتاقاً ربما إلى المشاوي الكثيرة في وطنه الأم الأرجنتين، بينما كان برفقة رجال وحيدين في الليل يتحدثون عن الحرب، في سييرا مايسترا. وبالنسبة إلي، أيضاً، بدأ شوقي لـِ: غاليسيا بالطعام حتى قبل أن أذهب إلى هناك.

والواقع أن جدتي، في البيت الكبير في أراكاتاكا، حيث عرفت أشباحي الأولى، لعبت دور الخباز المبهج، واستمرت به حتى عندما غدت عمياء تقريباً، وإلى أن فاض النهر، ودمر الفرن الذي لم يرغب أحد في البيت بإعادة بنائه. لكن شعور جدتي الشديد بعملها كان قوياً إلى حد أنها عندما لم تعد تستطيع أن تصنع الخبز أخذت تصنع اللحوم المدخنة. لحوم مدخنة شهية، مع أننا نحن الصغار لم نحبها ـ لا يحب الصغار أشياء الكبار غير المألوفة على الإطلاق ـ وعلى الرغم من ذلك فإن نكهة ذلك الطعم الأول ظل مطبوعاً في ذاكرة بلعومي إلى الأبد. لم أجد ذلك الطعم ثانية أبداً في أي من اللحوم المدخنة الكثيرة المختلفة؛ التي تناولتها فيما بعد في أي من أيامي الطيبة والعصيبة إلى أن تذوقت بالمصادفةــ بعد أربعين سنة، في برشلونة ــ شريحة نقية من لحم كتف الخنزير. وكل متعة الطفولة وشكوكها وعزلها الطفولة عادت إليّ فجأة مع نكهة تلك اللحوم المدخنة غير المنسية؛ التي صنعتها جدتي.‏

ومن تلك التجربة نما اهتمامي في اقتفاء أثر نسب تلك النكهة، و، في البحث عنها، وجدت نسبي بين خضار أيار المهتاج وبحر الريف الغاليسي الخصيب وأمطاره ورياحه الدائمة. وعندئذٍ فحسب عرفت من أين حصلت جدتي على سرعة التصديق الذي سمح لها أن تعيش في عالم أسطوري. كان كل شيء فيه ممكناً، وحيث كانت الإيضاحات المنطقية معدومة تماماً في الواقع، أدركت من أين جاء ولعها في تحضير الطعام، والزوار المفترضين، وعادة غنائها طوال اليوم. «يجب أن تحضر طبق اللحم والسمك لأنك لا تعلم أبداً ماذا يريد الناس عندما يأتون إلى الغداء،» كانت تقول، عندما كانت تسمع القطار يصفر. لقد ماتت بعد أن تقدم بها العمر كثيراً وفقدت بصرها، وحسها بالواقع مشوش بالكامل إلى حد أنها كانت تتحدث عن أقدم ذكرياتها كما لو كانت تحدث في تلك اللحظة، وتتحدث مع الموتى الذين عرفتهم أحياء في شبابها البعيد. كنت أخبر أحد الأصدقاء الغاليسيين بذلك في الأسبوع الأخير في سانتياغو دي كومبوستيلا وقال: «إذاً يجب أن تكون جدتك غاليسية، لا ريب في ذلك، لأنها كانت مخبولة.» وفي الواقع كل الغاليسيين الذين أعرفهم، وهؤلاء الذين قابلتهم دون أن يتسنى لي وقت كي أعرفهم، يبدو أنهم من مواليد برج الحوت.‏

لا أعرف من أين يأتي العار من كونك سائحاً. لقد سمعت الكثير من الأصدقاء وهم في زخم سياحي تام يقولون إنهم لا يريدون أن يختلطوا بالسياح، غير مدركين أنهم على الرغم من عدم اختلاطهم بهم، سياح مثل الآخرين تماماً. عندما أزور مكاناً ولا يتاح لي الوقت لأعرفه إلا سطحياً، أفترض أني سائح دون خجل. أحب أن أشارك في تلك الرحلات السريعة التي يوضح فيها المرشدون كل شيء تراه خارج النافذة ـ «على يمينكم ويساركم سيداتي وسادتي...» ـ وأحد الأسباب هو أنني أعرف مرة وإلى الأبد كل شيء، لا أزعج نفسي كي أراه عندما أخرج فيما بعد لأكتشف المكان بطريقتي الخاصة.‏

وفي كل حال، لا تدع سانتياغو دي كومبوستيلا وقتاً لمثل هذه التفاصيل: فالمدينة تفرض نفسها مباشرة، بالتمام والكمال، كما لو أن المرء مولود فيها. فقد اعتقدت وثابرت على الاعتقاد، حقاً، أن ما من ساحة في العالم أجمل من ساحة مدينة سينا. والساحة الوحيدة التي جعلتني أرتاب في اعتبارها الساحة الأجمل هي ساحة سانتياغو دي كومبوستيلا. فاتزانها ومظهرها الفتي يمنعك من التفكير بعمرها المهيب؛ بدلاً من ذلك، تبدو كما لو أنها قد شيَّدتها يوم أمس وحسب جماعة ما فقدت حسها بالزمن. قد لا يأتي هذا الانطباع من الساحة ذاتها لكن من كونها ـ مثل كل زاوية في المدينة ـ منغمسة حتى روحها في الحياة اليومية. إنها مدينة مفعمة بالحياة، يحثها حشد من الطلاب السعداء المسترسلين في مرحهم الذين لا يمنحونها فرصة كي تتقدم في العمر. وعلى الجدران التي ظلت سليمة، تمد حياة الشجيرات طريقها عبر الشقوق في صراع عنيد لتعيش إلى ما بعد النسيان، وعند كل خطوة، كما لو كانت الشيء الأكثر طبيعية في العالم، تواجه المرء معجزة الحجارة في بريقها الكامل.‏

أمطرت السماء لثلاثة أيام، ليس على نحو عاصف، بل مع فترات غير مألوفة من الشمس المشرقة. ورغم ذلك، لم يبدُ أن أصدقائي الغاليسيين قد رأوا تلك الفترات، واعتذروا عن المطر طوال الوقت. وربما كانوا غير واعين أن غاليسيا دون مطر ستغدو شيئاً مخيباً للآمال، لأن بلدهم بلد أسطوري ـ أكثر مما يدرك الغاليسيون أنفسهم ـ وفي البلاد الأسطورية لا تشرق الشمس أبداً. قالوا لنا: «لو قدمت في الأسبوع الأخير لاستمتعت بمناخ ممتع» والخجل بادٍ على وجوههم. «إنه مناخ غير عادي في مثل هذا الوقت من السنة،» أصروا ناسين فال ـ إنكلان وروزاليا دي كاسترو وكل شاعر غاليسي عاش أبداً، الذين تمطر السماء في كتبهم من بداية الخليقة، وخلالها تهب الرياح التي لا تهدأ أبداً، وربما الشيء نفسه الذي يبذر البذور المجنونة هو الذي يجعل كثيراً من الغاليسيين مختلفين على نحو مبهج.‏

أمطرت في المدينة، وأمطرت في الحقول المفعمة بالحياة، وأمطرت في جنة البحيرة في أروزا ومصبات نهر فيغو؛ وفوق الجسر، وأمطرت في بلازا دي كامبادوس غير الهيابة وغير الحقيقية تقريباً، وأمطرت حتى على جزيرة لا توخا، حيث يوجد فندق من عالم وزمن آخر، يبدو أنه ينتظر حتى يتوقف المطر، وتهدأ الرياح وتشرق الشمس لكي يبدأ الحياة. لقد مشينا تحت هذا المطر كما لو كنا في حالة من نعمة إلهية ونحن نأكل المحار بوفرة، المحار الوحيد الحي الباقي في هذا العالم المُدَمَّر؛ ونأكل السمك الذي، في الصحن، كان لا يزال يبدو كالسمك؛ والسلطة التي تستمر بالنمو على الطاولة. وعرفنا أن كل هذا بفضل المطر الذي لم يكف عن الهطول أبداً.‏

والآن بعد سنوات كثيرة منذ أن سمعت الكاتب الفارو كنغويرو وهو يتحدث عن الطعام الغاليسي في أحد مطاعم برشلونة، وكان وصفه باهراً جداً إلى حد أنني أخذته على محمل هذيان غاليسي. فبقدر ما أستطيع أن أتذكر سمعت مهاجرين غاليسيين يتحدثون عن غاليسيا، فكرت دائماً بذكرياتهم ملونة بأوهام حنينهم إلى الوطن. واليوم أتذكر ساعاتي الاثنين، والسبعين في غاليسيا، وأتساءل فيما إذا كانت كلها حقيقية، أو إذا ما بدأت أنا نفسي بالسقوط ضحية الهذيان مثل جدتي. فبين الغاليسيين ـ كما نعرف جميعاً ـ لا يمكنك أن تؤكد أمراً أبداً.‏


ت.حسام الدين خضور

و معاصر من حائز على

مشاهدة المطر في غاليسيا | ()


  اشترك معنا        |  |   |  

المزيد من مختارات

-

-

-

-

-  

-

-

-

-

-

-